هل يعتبر الشمول المالي مهمًا في زمن يواجه مخاطر مناخية ملحّة؟
أحد التحدّيات الأكثر إلحاحًا في عصرنا هو التغيّر المناخي. يذكّرنا موضوع هذه السنة لليوم العالمي للبيئة في 5 يونيو "أرض واحدة" أن هذا الكوكب هو المسكن الوحيد للبشرية وموارده قد تستنفذ ويجب أن نحميه. لقد تغيّر الكثير منذ مؤتمر ستوكهولم في عام 1972، بما في ذلك الترابط المتزايد بين البشر. وذكّرنا العامان الماضيان تذكيرًا صارخًا بأننا حقا "أرض واحدة فقط": فالفيروسات والحروب لا تتوقف عند الحدود، ولا تتوقف عندها الانبعاثات الكربونية أو الكوارث البيئية.
الفقراء يعانون على نحو غير متناسب من الصدمات المناخية
الفقراء في البلدان النامية لا يساهمون كثيرًا في الانبعاثات الكربونية، ولكنهم يعانون على نحو غير متناسب من تأثيرات تغيّر المناخ مقارنة بشعوب البلدان الغنية. فالاقتصادات الغنية مسؤولة عن أكثر من 92% من الانبعاثات العالمية الزائدة، وأكثر 1% ثراء من البشر اليوم ينتجون أكثر من ضعف الانبعاثات الناتجة عن أفقر 50% من البشر. ولكن لن نلوّث في مقالتنا هذه ليس على من يلوث، بل على من يعاني من تأثير تغيّر المناخ. في الحقيقة، لا يمكننا أن ننظر إلى الخطر المناخي ذاته فحسب، ولا إلى أسبابه فحسب، بل يتعيّن علينا أيضًأ، كما أشارت إليه الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، أن ندرك من هم المتضررين وما هي العوامل التي تعرّض مختلف الناس للخطر.
في الحقيقة، تُعتبر المجتمعات ذات الدخل المنخفض الأكثر تضررًا من التغيّر المناخي الذي يتجلّى في آثار مباشرة مثل الحرارة الشديدة والكوارث الطبيعية الأكثر شدة والمرتبطة بالطقس، والتي تؤدي إلى وفيات وإصابات وتلف الممتلكات. فالصدمات الرئيسية المرتبطة بالمناخ مثل الفيضانات والجفاف والعواصف تؤدي إلى زيادة في عدد الوفيات (الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ 2022) بمعدل 15 أضعاف في الدول الأكثر عرضة للمخاطر مقارنة بالدول الأقل عرضة لها. ورغم ذلك فإن الكوارث المناخية تؤدي إلى المزيد من الدمار من خلال درجة ثانية وثالثة من التأثيرات مثل الإصابة بالأمراض، وسوء التغذية، والتشرّد، والصراعات، وفقدان سبل العيش. ولأن البلدان الفقيرة لا تتميّز بمستوى جيد من الصحة العامة ولا تملك مؤسسات وبنية تحتية كافية لاحتواء الأضرار، فإن هذه الدرجة الثانية والثالثة من التأثيرات توسّع تباين التأثيرات المناخية بين الأغنياء والفقراء.
تعاني النساء والفتيات أكثر من الرجال والفتيان. فالنساء يشكّلن 80% من السكان الذين شرّدتهم الكوارث المرتبطة بالمناخ قصرًا في البلدان النامية، وهنّ أكثر عرضة للوفاة بسبب الكوارث الطبيعية مثل الجفاف، والفيضانات، والعواصف (الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ 2022). كما تعاني النساء والفتيات من الدرجة الثانية والثالثة من التأثيرات، بما فيها ارتفاع نسبة مخاطر العنف القائم على نوع الجنس، والتوقّف عن الدراسة، والزواج المبكر للأطفال. وتطال أوجه عدم المساواة الفئات المهمشة الأخرى، بما فيها الشباب والمسنين والأقليات الإثنية والدينية والسكان الأصليين واللاجئين (الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ 2022).
وفي حين أن الفقراء يعانون بشكل غير متناسب، فهم يفتقرون إلى استراتيجيات تساعدهم على مواجهة الصدمات واستيعابها والتكيف معها. وتتركّز الخسائر والأضرار بين أشد السكان ضعفًا، حيث يحدّ التقاطع بين عدم المساواة والفقر بشكل كبير من التكيف الاستيجابي (الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ 2022). فضلاً عن ذلك، فإن أي خسارة تؤثر على الفقراء والمهمشين بشكل أكبر لأن سبل عيشهم تعتمد على عدد أقل من الأصول، واستهلاكهم أقرب إلى مستويات الكفاف ولا يمكنهم الاعتماد على المدخرات لتخفيف التأثيرات، كما أصبحت صحتهم وتعليمهم أكثر عرضة للخطر، وقد يحتاجون إلى المزيد من الوقت للتعافي. إن التقديرات الخاصّة بتأثيرات تغيّر المناخ على دخول الفقراء وجدت أن أفقر 40% من السكان في 92 دولة نامية تعرّضوا لخسائر تزيد بنسبة 70% عن الخسائر التي تكبّدها أصحاب الثروات المتوسطة.
ولا شك أنّ هذه الفجوات الصارخة ستتزايد مع تفاقم مستوى الهشاشة والتفاوت بسبب تأثيرات تغيّر المناخ (الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ 2022).
ومن دون مراعاة آثار تغيّر المناخ على الفقراء والضعفاء، لن تكون أي مبادرة إنمائية مستدامة.ستعقد الأمم المتحدة مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغيّر المناخ (COP26) في مصر في شهر نوفمبر. وسيشدّد المؤتمر في أفريقيا على ضرورة التركيز على التكيّف مع اتخاذ الإجراءات التخفيفية وإشراك المجتمعات والبلدان الفقيرة والأكثر عرضة للخطر في المناقشات المتمحورة حول تغيّر المناخ. ولا يمكن أن يقتصر الحوار على الفقراء والضعفاء فقط، بل يجب أن يشركهم لضمان تلبية احتياجاتهم، لضمان مستقبل مستدام شامل للجميع.
يساعد الشمول المالي الفقراء على مواجهة الصدمات المناخية
ومن المفهوم أن الحوار الحالي حول تغيّر المناخ يركّز على التحدّيات على المستوى الكلي، مع التشديد على إجراءات التخفيف منها. وعندما يتعلق الأمر بالخدمات المالية، فإن الحوارات تركّز جدًا على تعزيز الملاءمة البيئية للقطاع المالي وضمان الاستقرار المالي أثناء الانتقال إلى اقتصادات منخفضة الكربون. فشركات التقنية المالية المتعلقة بالمناخ جذبت 1.2 مليار دولار من الاستثمارات في العام الماضي، وهي تعمل الآن على تطوير حلول مبتكرة لتعويض انبعاثات الكربون، واحتساب انبعاثات الكربون، وتوفير تحليلات سلسلة العرض، وهي كلّها مبادرات ضرورية.
ولكن التحدّيات المرتبطة بالمناخ لا يمكن حلّها بالتركيز على جانب واحد فقط من المعادلة، بل يتعيّن علينا أن نركّز على التكيّف الذي يحتاج إليه الفقراء، وعلى كيفية استخدام الخدمات المالية من قبل الفقراء والضعفاء، وخاصة النساء، لمساعدتهم على مواجهة التحديات العديدة (والفرص) التي تفرضها أزمة المناخ. وعندما يتعلق الأمر ببناء القدرة على الصمود لمواجهة الصدمات المناخية على المستوى الفردي ومستوى الأسرة، فلا بد من مراعاة الدور الذي تؤديه الخدمات المالية والنظر في كيفية تحويل التزامات تمويل المناخ على المستوى الكلي إلى منتجات وخدمات قادرة على مساعدة الأسر الضعيفة، ولا بدّ أن نحرص أيضًا على ألاّ تكون الجهود الرامية إلى التحوّل بالقطاع المالي ليصبح ملائمًا بيئيًا على حساب منتجات التمويل الشاملة التي يمكنها مساعدة الفقراء في بناء قدرتهم على الصمود وتحسين سبل عيشهم، بما في ذلك في مواجهة تغير المناخ.
إن إتاحة مجموعة من الخدمات المالية العامة بدأت تساعد على بناء القدرة على الصمود. على سبيل المثال، لا تحتاج منتجات الادخار والتحويل المالي الموثوقة إلى أن تكون مصمّمة خصيصًا للمخاطر المناخية للمساعدة في استهلاكها بشكل سلس خلال فترات الجفاف أو للمساعدة في تسريع التعافي بعد وقوع صدمة مناخية. ومع ذلك، قد تؤثّر أنواع أخرى من المنتجات بشكل أكبر إن صُمّمت خصيصًا لمخاطر معينة. فالمنتجات الائتمانية، مثلاً، قد تساعد الفقراء في الاستثمار في الإجراءات التي تحدّ من المخاطر مثل الري، أو اعتماد أصناف البذور الأكثر متانة، أو الانتقال إلى سبل معيشة جديدة ومصادر دخل متنوعة. كذلك، يساعد التأمين الفقراء على تحمّل الخسائر وعلى إعادة بناء حياتهم وسبل عيشهم وعلى تعزيز قدرتهم على مواجهة الصدمة التالية. فمدفوعات الحماية الاجتماعية المتكيفة والمقدّمة من الحكومات والمنظمات الإنسانية تساعد الناس على مواجهة العواقب المباشرة للصدمات المناخية، لاسيّما الصدمات الشديدة وواسعة النطاق التي لا يمكن للسكان الضعفاء مواجهتها بمفردهم. يوضّح الشكل التالي كيفية ملاءمة الحلول المالية المختلفة لمختلف المخاطر حسب احتمال وقوعها وشدّتها.
ثمّة أمثلة عديدة تبيّن كيف تمّت مساعدة الفقراء على إدارة الصدمات المناخية من خلال المنتجات المالية. خلال الفيضانات التي حدثت في يناير 2013 في موزامبيق، على سبيل المثال، استخدم الناس في المناطق المتأثرة محافظهم على الأجهزة المحمولة لتلقي تحويلات مالية رقمية من الأصدقاء والأسر. وكانت هذه التحويلات أسرع كثيرًا من تحويلات شبكة الأمان الاجتماعي من الحكومة أو الدعم من المقرضين غير الرسميين.
تُوفّر الخدمات النقدية على الأجهزة المحمولة شبكة تأمين غير رسمية يمكنها التخفيف بفعالية من تأثير الصدمات الفردية والكلية على حد سواء:
نموّ القيمة الإجمالية للتحويلات النقدية الشهرية على الأجهزة المحمولة
التي تتلقاها جميع الأسر المعيشية في موزامبيق والذين شملهم الاستبيان
المصدر: البيانات الإدارية واردة من مشغّل خدمات نقدية على الأجهزة المحمولة
توضّح أمثلة أخرى كيف تساعد الخدمات المالية الفقراء ليس فقط على مواجهة أزمات المناخ بل وأيضًا على اتخاذ الخطوات الأولى نحو التكيّف معها على المدى الأبعد. ففي مختلف أنحاء أفريقيا وأجزاء من آسيا على سبيل المثال، يتلقى أكثر من 4 ملايين مزارع قروضًا وتأمينات قائمة على مؤشر العائد من خلال شركة "بولا" للتأمين الزراعي وشركائها من المصارف. وتحفّز حزمات المنتجات المجمّعة المزارعين على التحوّل إلى البذور المتينة وتحميهم في حالة تكبدهم لخسائر تتعلق بالمناخ. وفي الهند، ساعدت شركة SMV Green Solutions 1,700 سائق توك توك في الحصول على قروض لشراء مركبات التوك التوك الكهربائية، ونجحت هذه المركبات الكهربائية في تحسين صحة السائقين إلى حد كبير مقارنة بالمركبات اليدوية، وهي أقل تكلفة منها لأن السائقين لا يشترون البنزين، وأقل تأثيرًا على البيئة.
إن توفير الأدوات المالية اللازمة لتعزيز القدرة على مواجهة التغيّر المناخي ينطوي على الكثير من التعقيدات
وصفت مقالة "سيجاب" حول القدرة عل الصمود تعقيدات بناء القدرة على مواجهة المخاطر التي يواجهها الفقراء. فالمخاطر المناخية أشد تعقيدًا من المخاطر المشتركة الأخرى، وقد لا تنجح استراتيجيات إدارة المخاطر الاعتيادية التي يعتمدها الفقراء في التعامل مع المخاطر المناخية. وفي بيئة الشمول المالي، ثلاثة جوانب رئيسية تجعل تغيّر المناخ أكثر تعقيدًا.
أولاً، خلافًا لمعظم المخاطر التي يتعين على الفقراء مواجهتها، تؤثّر الصدمات المناخية بشكل عام على العديد من الناس في الوقت نفسه، ما يجعل من الصعب تطبيق المصادر التقليدية للصمود، مثل الخدمات المالية غير الرسمية، لفترة طويلة من الزمن لأن العديد من الناس سيحتاجون إلى الاعتماد عليها بشكل متزامن (أي لن يتمكّن الجميع من الاستفادة من مجموعة الادخار في الوقت نفسه). إلى ذلك، يعلّق مزودو الخدمات المالية الرسمية عملياتهم أحيانًا في أوقات الأزمات، هذا وتعتمد قدرة أي فرد على الصمود على قدرة الآخرين على الصمود وعلى ترتيبات الادخار والتأمين غير الرسمية وعلى المزوّدين الرسميين للبنى التحتية، من أبراج الهواتف المحمولة إلى الوكلاء بل وحتى شبكات الأمان الحكومية.
ثانيًا، يختلف تأثير الصدمات المناخية بشكل كبير بحسب نوع الصدمة (وبخاصة إذا وقعت بشكل بطيء وليس مفاجئ) والمواقع المختلفة للأشخاص المتأثرين بالصدمة. على سبيل المثال، يواجه سكان المدن المتضررون من الفيضانات تحديات ونهج استجابة مختلفة عن تلك التي يواجهها سكان الريف الذين يعانون من جفاف يهدّد محاصيلهم، وهذا يعني أنهم سيحتاجون أيضًا إلى أدوات مالية مختلفة. والأمر مختلف بالنسبة في حالة المخاطر الأخرى مثل الحرائق أو الجرائم أو الأمراض، حيث تتشابه آليات الاستجابة وحيث يستخدم معظم الناس المجموعة نفسها من الأدوات المالية لإدارة المخاطر.
ثالثًا، تنطوي منهجية إدارة الصدمات المناخية على تعقيدات تزيد عن تعقيدات العديد من الأنواع الأخرى من المخاطر التي تهدد الناس الضعفاء، لأنه يصعب التنبؤ بها ولأن تأثيرها غالبًا ما يكون من الدرجة الثانية والثالثة. هذا ومن الصعب جدًا تحديد الاستجابة وآلية التكيّف الأكثر فعالية، في ظل مجموعة واسعة من النتائج غير المتوقعة. ولكي يتمكن الفقراء حقًا من الصمود في وجه صدمات تغيّر المناخ، يجب أن يمتلكوا المعرفة والأدوات والموارد اللازمة لتمكينهم من التكيف في المدى البعيد. ويجب أن تتكيّف الأنماط التقليدية لسبل المعيشة مع التغييرات في درجات الحرارة وفي معدلات سقوط الأمطار، ومع زيادة ندرة المياه، والتغيرات المستمرة في المنظومة البيئية، علمًا أن الابتعاد عن سبل العيش التقليدية، أو الانتقال إلى أماكن أخرى غير معرضة، سيعطّل مجددًا حياة الفقراء والضعفاء بشكل غير متناسب. كذلك، إن إنشاء خدمات مالية تدعم الفقراء خلال المرحلة الانتقالية سينطوي أيضًا على تعقيدات.
التحدّيات التي تواجه مزوّدي الخدمات الذين يقدّمون منتجات مالية تستجيب للتغيّر المناخي: البيانات المحدودة والتكاليف المرتفعة
إلى جانب كافة التعقيدات التي ترتبها المخاطر المناخية على بناء القدرة على الصمود، يواجه مزوّدو الخدمات المالية تحديين إضافيين: البيانات المحدودة والتكاليف المرتفعة جدًا.
إن غياب البيانات بشأن الصدمات المناخية وتأثيرها يجعل من الصعب تحديد سعر دقيق للمنتجات المرتبطة بالمناخ، وخاصة التأمين. يجب أن تتوفر لخبراء التأمين بيانات تاريخية موثوقة حول وتيرة وحجم الصدمات وتأثيرها، ولكن تغيّر المناخ جعل البيانات التاريخية مؤشرًا لا يفيد المستقبل. وحتى عندما تتوفّر البيانات الدقيقة، إن التكاليف الإجمالية للمنتج المالي الذي يغطي الأفراد الفقراء بالقدر الكافي ضد المخاطر المناخية تزيد كثيرًا عن التكاليف التي قد يتمكن هؤلاء الأفراد من دفعها أو يرغبون في دفعها.
ولن يكون من السهل تطوير المنتجات التي يقدّمها القطاع الخاص بحيث تكون مستدامة لمزوّدي الخدمات وبأسعار معقولة للعملاء، ولكننا نعتقد أن ذلك ممكن من خلال الابتكار والشراكات بين القطاعين العام والخاص. وسيكون الإبداع ضروريًا لأن "العمل كالمعتاد" لن يكون كافيًا. وبالفعل، بدأ بعض مزوّدي الخدمات يتصارعون مع هذه المشاكل منذ سنوات ويمكنهم المساعدة في توجيه الآخرين. على سبيل المثال، يقدّم عدد متزايد من مزودي التأمين خدمات التأمين القائم على المؤشر كحل لمشكلة غياب البيانات وارتفاع التكاليف، حيث يوفّر التأمين القائم على المؤشر مدفوعات محدّدة مسبقًا استنادً إلى حدث محفّز (مثل سقوط الأمطار بكميات قليلة أو كبيرة) بدلاً من تقديم أدلة مباشرة على الخسارة أو الأضرار. وهذا لا يتطلب سوى البيانات المجمّعة التي توفّرها محطة الأرصاد الجوية أو صور الأقمار الصناعية، بدلاً من البيانات الخاصة بفرد محدّد أو بمزرعة معينة. وفي مثال آخر في بنغلاديش، تعلمّ مزوّدو التمويل الأصغر، قبل أكثر من عقد من الزمن، كيفية بناء قدرتهم على الصمود من خلال برامج الادخار والقروض، في بلد معرّض جدًا للتغيرات المناخية حيث تعرّض لعقود من الزمن لفيضانات عارمة وبدأت تحدث بوتيرة متزايدة. وتقوم مؤسسات التمويل الأصغر ببناء مخففات داخل ميزانياتها العمومية تسمح لها بتقديم قروض جديدة للمزارعين ومساعدتهم على التعافي بشكل أسرع، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى سداد كل من القروض القديمة والجديدة مع مرور الوقت. بيد أن هذه التدابير ستصبح معقدة على نحو متزايد، وقد تواجه المؤسسات المالية الداعمة للفقراء تحدّيات ملحوظة مع زيادة وتيرة وشدّة الصدمات المناخية ومع ارتفاع التكاليف والمخاطر إلى مستويات غير مسبوقة.
ومن أجل إدارة هذه التحدّيات وتقديم منتجات مستدامة بأسعار معقولة، سيتعين على مزوّدي الخدمات اتخاذ إجراءات مختلفة للتخفيف من المخاطر أو الخسائر وتخفيض التكاليف، وتشمل:
توفير الدعم الحكومي، خصوصا من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص: في حين سيؤدي القطاع الخاص دورًا هامًا في تطوير المنتجات المالية، فمن الصعب أن نصدّق أن كلّ الإبداع والابتكار في العالم قد يسفر عن مجموعة من المنتجات تغطي الصدمات المتوقعة المرتبطة بالمناخ بأسعار يمكن للفقراء تحملها. بيد أن الحكومات في البلدان النامية تواجه قيودًا مالية شديدة وستواجه العديد من مطالبات التمويل الحكومي بسبب تغير المناخ. لذلك، لا بد من إيجاد سبل لتعظيم دور القطاع الخاص، مع ضمان قدرة الفقراء على تحمل التكاليف من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص. ولن تحتاج الحكومات إلى توفير البيئة التمكينية الأساسية فحسب، أي الاستقرار، والسياسات، والتنظيمات، والإشراف، والبنية التحتية، والتي هي لازمة لكي يزدهر القطاع الخاص ويطوّر حلولاً مبتكرة، بل ستحتاج الحكومات أيضًا إلى تقديم إعانات لدعم الأسعار لصالح لفقراء جدًا وشبكات الأمان الاجتماعي لتغطية المخاطر ذات الأثر الأكبر والوتيرة الأقل.
تجميع المخاطر وتنويعها: بما أن المخاطر المناخية متغايرة جدًا، لا بدّ من تجميع المخاطر (من خلال إعادة التأمين مثلاً) بحيث يتم تقاسم المخاطر بين مجموعة من شركات التأمين (التي تغطي بشكل جماعي مجموعة متنوعة من المناطق الجغرافية وأنواع التهديدات، إلخ). وإذا قامت أوعية شركات تأمين بتغطية بلدان (وحتى مناطق) عدّة بشكل جماعي وأنواع متعددة من المخاطر، فسيتم تقاسم تأثيرات كارثة مناخية واحدة بين شركات متعددة. قد تتمكن الخدمات المالية الرقمية، بطريقة أو بأخرى، من توفير أوعية المخاطر الأوسع لأنواع أخرى من الخدمات المالية. فالخدمات المالية غير الرسمية، مثل مجموعات الادخار، هي أقل قدرة على التعامل مع المخاطر المناخية بسبب تغاير المخاطر، ولكن إذا كان من الممكن إنشاء أوعية أوسع للمخاطر مع العديد من مجموعات الادخار (أو مثلاً مؤسسات التمويل الأصغر للائتمان)، لن يضطر جميع المشاركين في المجموعات استخدام مدخراتهم أو سيكون من الممكن تفادي اعسار العديد من عملاء التمويل الأصغر.
حزمات المنتجات: وهناك آلية أخرى تتمثل في تقديم حزمة من المنتجات المجمعة التي تحثّ العملاء على شراء منتجات إزالة المخاطر، مثل منتجات التأمين، والتي لا يشترونها عادة، وذلك من خلال جمعها في حزمة مع منتجات أخرى يحتاجون إليها، ما يؤدي بالتالي إلى التخفيف من المخاطر وتخفيض أسعار هذه المنتجات. إن تجميع المنتجات في حزمة واحدة يسمح بدعم المنتجات بشكل متبادل مقابل مخاطر أقل بشكل عام، ما يسمح بالتالي بتعزيز الترابط بين المخاطر والعائد بشكل عام لمزوّد الخدمات المالية. على سبيل المثال، تمكّن المزارعون في كينيا من زيادة أرباحهم بشكل كبير في عام 2021، واستطاعوا تعزيز قدرتهم على مواجهة الصدمات الخارجية بفضل حزمة الخدمات التي تقدمها شركة ديجيفارم، والتي تمكن مزارعيها الذين يبلغ عددهم 1.3 مليون مزارع، من خلال منصة واحدة، من الوصول إلى بذور أفضل والمشاركة في التعلم والتواصل مع المشترين والحصول على القروض والتأمين معًا.
تجمع بعض الأمثلة المثيرة للاهتمام التي نراها اليوم بين العديد من هذه الآليات.
على سبيل المثال، يشكّل مرفق التأمين ضد مخاطر الكوارث في منطقة البحر الكاريبي "أول وعاء متعدّد البلدان ومتعدّد المخاطر على مستوى العالم يقوم على التأمين البارامتري". وقام هذا المرفق، الذي يضمّ 22 حكومة في منطقة الكاريبي وأميركا الوسطى من بين أعضائه، وشركة Guardian General Insurance Limited بتطوير منتج جديد يهدف إلى حماية الفقراء من المخاطر المناخية. وتهدف وثيقة حماية سبل العيش هذه إلى المساعدة على حماية سبل العيش لذوي الدخل المنخفض والضعفاء مثل صغار المزارعين وصغار الصيادين. وتغطي الوثيقة مخاطر الطقس الشديدة المرتبطة بالرياح والأمطار في كل من خمسة بلدان في منطقة البحر الكاريبي وتقدّم مدفوعات نقدية سريعة (في غضون 14 يومًا) بعد أحداث الطقس المتطرفة. وتستفيد شركة Guardian Insurance من البيانات التي قام المرفق بجمعها بشأن المخاطر المناخية في المنطقة على مدى السنوات الـ 10 الماضية ومن الخبرة الكبيرة لموظفي المرفق في تطوير حلول مبتكرة للتأمين على المناخ. وهذا مثال على الشراكة بين القطاعين العام والخاص وتجميع المخاطر في بلدان متعدّدة وفي وجه أنواع متعدّدة من التهديدات.
وفي مثال آخر، تعتمد شركة بولا، المذكورة سابقًا، وهي شركة تأمين وتكنولوجيا زراعية موجودة في أكثر من اثني عشر بلدًا عالميًا، استراتيجيات متعددة في إدارة المخاطر والحفاظ على أسعار معقولة. وتقدّم شركة بولا حزمة من منتجات القروض والتأمين من خلال شركاء مصرفيين وتقدّم التأمين القائم على مؤشر العائد للحدّ من حاجة الحصول على بيانات عن المطالبات الفردية. وتعمل شركة بولا أيضًا من خلال شراكات مع ممولين وحكومات لتقديم خدماتها بشكل مستدام. ففي كينيا على سبيل المثال، تدعم الحكومة نصف الأقساط التي يتحملها كل مزارع في وثيقة التأمين القائم على مؤشر العائد الذي تقدّمه شركة بولا. وتقدّم شركة بولا في زامبيا مؤشرًا هجينًا للطقس وخدمة تأمين قائم على مؤشر العائد من خلال برنامج الحكومة لسلسلة إمداد الموارد التشغيلية للمزارعين، وتعمل حاليًا على التوسّع أيضًا في آسيا وأمريكا اللاتينية.
وعلى الرغم من هذه الأمثلة الواعدة، تم تطوير عدد قليل من الحلول ولا يزال التباين بين ما يحتاج إليه الفقراء وبين الخدمات المالية المقدّمة شاسعًا. عالميًا، لا يزال بالغ واحد من بين كل 5 بالغين غير قادر على فتح حساب مصرفي أو على الحصول على أي خدمة مالية رسمية أخرى، ناهيك عن المنتجات المصممة لتلبية احتياجاتهم في وقت الأزمات. لذا، يلزم توفير نهج جديدة تشمل مجموعة أوسع من الأطراف المعنية، وإلاّ فإنّ العمل كالمعتاد من شأنه أن يستبعد الفقراء بدرجة أكبر ويتركهم غير مجهزين لمواجهة التحدّيات العديدة التي يفرضها تغيّر المناخ والتكيّف معها.
دور مجتمع الشمول المالي هام جدًا في مساعدة الفقراء على التكيّف مع أزمة المناخ
أطلقت مجموعة "سيغاب" مبادرة مدّتها أربع سنوات لتعزيز القدرة على مواجهة التغيّر المناخي والتكيّف معه من خلال الخدمات المالية. ومن خلال هذا المشروع، نعمل على زيادة فعالية الخدمات المالية التي تساعد الضعفاء، وخاصة النساء، على التكيّف وتعزيز قدرتهن على مواجهة تغير المناخ. ولا بدّ هنا من التفكير والعمل بشكل جماعي، ونأمل أن نعقد الشراكات مع العديد من الأطراف المهنية —حضرتكم! — لنسع معًا إلى دعم تطوير الحلول الإبداعية لمواجهة هذه التحديات الأصعب.
وبصفتنا مجتمع للشمول المالي، في يلي بعض الأسئلة التي يتعين الإجابة عنها:
- ما هي الخدمات المالية الجديدة أو المعزّزة التي يمكن أن تساعد في سدّ الفجوات وتجاوز الحواجز الحالية التي تمنع الفقراء من تعزيز قدرتهم على الصمود ومواجهة التغيّر المناخي؟
- ما هي خبرة النساء في استخدام الخدمات المالية لمواجهة التغيّر المناخي؟ كيف تختلف احتياجات الإناث عن احتياجات الذكور؟
- ما هي القيود الرئيسية التي تواجه مزوّدي الخدمات في تقديم خدمات مالية تساعد على مواجهة المناخ؟ وكيف يمكن تخفيف هذه القيود؟
- ما هو دور القطاع العام، بالمقارنة مع القطاع الخاص، في تقديم منتجات مالية تستجيب للمناخ؟ كيف نوفّق بين الحاجة إلى استرداد التكاليف والقدرة على تحمل التكاليف؟ وما هو المبلغ الذي ينبغي أن يدفعه الفقراء أنفسهم، مقارنة بإعانات الحكومات؟
- ما هو الدور الذي يمكن أن يؤديه المموّلون والجهات الفاعلة في مجال التنمية لضمان قدرة الضعفاء، ولاسيّما النساء، على الوصول إلى الخدمات المالية المستجيبة للأزمات المناخية واستخدامها بفعالية؟
- كيف يمكن للهيئات الناظمة المالية وصناع السياسات تعزيز قدرة وحوافز مزوّدي الخدمات المالية على تقديم خدمات مالية تستجيب للمناخ، وخاصة للنساء؟
ولقد أوضحت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ (مع تنبيهات ملحّة) أن العالم يقترب من درجة خطيرة من التغير المناخي والعواقب ستكون مدمّرة. وبحلول عام 2030، قد يدفع تغير المناخ 130 مليون شخص إضافي إلى الفقر المدقع وقد يقتل نحو 2.3 مليون شخص كل عام في البلدان الفقيرة. ومقارنة بالصدمات الأخرى غير المتوقعة، مثل جائحة كوفيد، نعلم أنه ينبغي أن نتوقع مثل هذه التأثيرات، وأنه من الحماقة ألا تستعد لها.
وبصفتنا مجتمع يركّز على الشمول المالي، بوسعنا تحفيز عملية تطوير حلول جديدة مبدعة لتعزيز سرعة الخدمات المالية الموثوقة والمستدامة والميسورة والتي تساعد الفقراء على تعزيز قدرتهم على مواجهة عالم من الصدمات المناخية. ويتعين علينا أن نتأكّد من أن الفقراء مشمولون في المشاريع الموضوعة لمواجهة التغيّر المناخي، وهذا يعني تحسين قدرتهم على الصمود في وجه التأثيرات المادية للتغير المناخي، وتعزيز قدرتهم على الوصول إلى المهارات والتقنية والأسواق التي ستكون لازمة للتكيّف مع التغير العالمي البعيد المدى، وتعدّ الخدمات المالية أداة مهمة لتيسير ذلك.
وإذا تجاهل المجتمع الناس الذين لا يمكنهم الوصول إلى الخدمات المصرفية، بينما هم الأكثر عرضة لأزمة مناخية لم يتسببوا بها، فإن جهودنا الرامية إلى بناء عالم أكثر شمولاً تكون قد باءت بالفشل. ولكن إذا ما استخدمنا براعتنا في توسيع الفرص المتاحة لأكثر الناس فقرًا، فيتعين على صناع القرار السياسي في بلادنا والقطاع الخاص أن يخطوا خطوة إيجابية نحو تلبية الاحتياجات الاجتماعية المزمنة في حين يواجهون التحدي البيئي الأكثر إلحاحًا على مستوى العالم. وفي يوم البيئة العالمي لهذا العام، دعونا نؤكد من جديد أننا لا نملك سوى "أرض واحدة"، وأنه لا بد أن نسعى بجهد إلى تطوير الحلول التي تخدم البشرية جمعاء.