تجاوز إتاحة الخدمات واستخدامها: توظيف الخدمات المالية لكسب الرزق
العمل هو جوهر كرامة الإنسان.
عندما اعتمدت المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء "سيجاب" إستراتيجيتها الخَمسية الحالية في عام 2018، وضعت في مقدِّمة نظريتها للتغيير بيان رؤيتها الحاكمة لعملها وأضافت في عام 2020 تركيزاً على المرأة: "عالم يتم فيه تمكين الفقراء، لاسيما النساء، من اغتنام الفرص وبناء قدرتهم على الصمود من خلال الخدمات المالية". وبعبارة أخرى، تحوَّلنا صراحةً من نموذج الشمول المالي القائم على إتاحة الخدمات المالية واستخدامها إلى إطار يركِّز على ضمان تلبية هذه الخدمات للاحتياجات المتنوعة للفقراء.
إن هذا التحوُّل ليس بسيطاً. فالتركيز على النواتج مثل اغتنام الفرص وبناء القدرة على الصمود يؤدي على الأرجح إلى نُهُج تختلف عن إنشاء حسابات للناس. ويتطلَّب ذلك منا فهم ما يحتاجه الفقراء ثم تحديد أفضل الحلول – تُقدَّم من خلال القطاع العام أم الخاص، رقمية أم تناظرية – لمساعدتهم على تلبية احتياجاتهم وإعادة تقييم مدى جدوى تلك الحلول بشكل مستمر. لكن "الفرص" و"القدرة على الصمود" مفهومان مجردان إلى حد ما. ولتركيز عملنا بصورة أفضل، قررنا تحديد ثلاثة مجالات نرى أنه يمكن فيها للمعارف الجديدة عن الخدمات المالية التي تستعين بالتكنولوجيا الرقمية لعب دورٍ مفيدٍ في تحسين الأحوال المعيشية للفقراء: القدرة على كسب دخل، والحصول على الخدمات الأساسية، وحماية مستويات المعيشة الأساسية. ورغم أن جائحة كورونا تسببت في انحرافنا جزئياً عن مسار هذا التحوُّل، فإننا تمكَّنا في عام 2020 من إحراز تقدُّم كبير نحو تحديد نهجنا في أول هذه المجالات، وهو تحقيق الدخل.
وأثناء صياغة إستراتيجيتنا الحالية، قمنا بتحليل قضايا مثل الطبيعة المتغيِّرة للعمل والهجرة والتغييرات العديدة التي أحدثتها التكنولوجيا في حياتنا. ومراراً وتكراراً، كانت مناقشاتنا تعيدنا إلى سبل كسب الرزق والتمويل الأصغر، وهما مجالان ركَّزت عليهما سيجاب بدرجة أقل على مر السنين. ويمكنني تذكُّر أنني شعرت ببعض الانزعاج حيال ذلك. فقد بدا للكثيرين منا أننا نعود إلى ماضٍ أنجزنا فيه الكثير بالفعل. لكن اتضح في النهاية أن وإذا كان هناك شيء مفصلي في تلبية احتياجات الناس، فهو القدرة على كسب دخل مستقر.
في هذا المقال، أود أن أعرض لكم بعض النتائج التي خلص إليها بحثنا الأولي عن سبل كسب الرزق ولماذا لا تزال الخدمات المالية مهمة في مساعدة الفقراء على خلق فرص مُدرِّة للدخل. كما أود اطلاعكم على كيف تخطط سيجاب لتركيز عملها في هذا المجال المهم. ولمن يرغبون في الاطلاع على مزيد من التفاصيل، فإني أوصي بشدة بمطالعة ورقة بحثية التي أعدَّتها مؤسسة دي إيه آي (DAI) وساعدت في تشكيل رؤية سيجاب بشأن هذا الموضوع المُعقَّد.
الطبيعة المتغيِّرة لسبل كسب الرزق
في تسعينيات القرن الماضي، أطلقت وزارة التنمية الدولية البريطانية إطاراً لسبل كسب الرزق المستدامة. وأقرَّ هذا الإطار بإشكالية دعم سبل كسب الرزق وتعقيدها وبيَّن أن خيارات الفرد وفرصه تتوقف على العديد من العوامل والظروف: مكان عيشه، وهويته، والخدمات التي يمكنه الحصول عليها لتحسين وضعه. وفي ذلك الوقت، ركَّزت معظم برامج سبل كسب الرزق على المناطق الريفية، وهو أمر صائب. فنصف سكان البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل وغالبية كبيرة من الأسر المعيشية منخفضة الدخل في العالم يعملون في الزراعة باعتبارها أحد الأنشطة الرئيسية لكسب العيش. ونتيجةً لذلك، ركَّزت هذه البرامج على زيادة إنتاجية المزارع العائلية ودعم المشروعات الصغرى باعتبارها وسيلة لمساعدتها على تنويع الدخل والمخاطر.
لكن العالم كان على أعتاب تغيير هائل شمل تحرير الاقتصادات وفتح الحدود والازدهار التكنولوجي. وقد تسببت هذه التغييرات الاقتصادية في حدوث تغيُّر سكاني كبير، حيث هاجر ملايين الأشخاص إلى المدن بحثاً عن عمل. وفي الفترة بين عامي 1990 و2020، زاد سكان البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل بنسبة 50% وتركز معظم هذه الزيادة في المناطق الحضرية. وفي الفترة ذاتها، انخفضت نسبة مَن يعملون بشكل أساسي في الزراعة بنحو 10 نقاط مئوية في أفريقيا، و20 نقطة مئوية في جنوب آسيا، و25 نقطة مئوية في شرق آسيا. وفي آسيا، كان جزء من هذه الهجرة سببه الانجذاب إلى الوظائف الجديدة في قطاع الصناعات التحويلية، خاصةً في الصين وكذلك في بلدان أفقر مثل بنغلاديش. وتضاعفت نسبة الوظائف بهذا القطاع في البلدان الآسيوية منخفضة ومتوسطة الدخل إلى ما يزيد قليلاً عن 20% من مجموع الوظائف، وذلك قبل ثبات هذه النسبة في معظم البلدان خلال السنوات العشر الماضية وتراجعها في بلدان عديدة. وفي أفريقيا، لم تمثل الوظائف الصناعية في قطاع الصناعات التحويلية الكبيرة والصغيرة نسبة مؤثرة، إذ لم تتجاوز ما يتراوح من 10 إلى 11% من مجموع الوظائف في أفريقيا ولم يتغيَّر ذلك منذ عام 1990.
ورغم تراجع العمل في قطاع الزراعة وثبات الوظائف في قطاع الصناعات التحويلية، فقد زاد عدد العاملين بقطاع الخدمات زيادةً كبيرةً. وأدى التوسُّع السكاني في المناطق الحضرية إلى تحفيز نمو قطاع خدمي متنوِّع يشمل التجارة والنقل وكذلك الخدمات الاجتماعية، والصحية، والخاصة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والخدمات المالية. ويشكِّل العاملون بهذا القطاع حالياً 24% في جنوب آسيا، و36% في أفريقيا، و46% في شرق آسيا، ويتم الاقتراب تدريجياً من المتوسط العالمي وهو 51%. ومن المُرجَّح أن يستمر قطاع الخدمات في النمو، وهو ما يُعَد مهماً خاصةً للنساء اللائي يعتمدن عليه في كسب أرزاقهن. وعلى الصعيد العالمي، يعمل 57% من النساء في هذا القطاع مقابل 47% من الرجال. وإحصائياً، هناك ارتباط وثيق بين تراجع العمالة الزراعية بشكل عام وزيادة مشاركة النساء في القوى العاملة، لاسيما في الوظائف الخدمية.
يقوم أي نقاش حول العمل على موضوع الإنتاجية وكيفية زيادتها. وهناك أسباب قوية للتركيز على زيادة الإنتاجية: فعلى مستوى الاقتصاد الكلي، ترتبط زيادة الإنتاجية ارتباطاً وثيقاً بارتفاع مستويات الدخل والحد من الفقر. لكن الإنتاجية مهمة كذلك على مستوى الأسر المعيشية. فإذا أُتيحت للناس خيارات متنوعة للعمل، فيمكنهم البحث عن الفرص التي تحقق أفضل دخل للأسرة. وعلى مستوى الأفراد والأسر المعيشية، هناك شواهد قوية على ارتباط زيادة الإنتاجية بالتحسُّن في مستوى الرفاهة، وهو ما يُقاس بزيادة الاستهلاك وتراكم الأصول المنتجة وتراجع حالات انعدام الأمن الاقتصادي الناجمة عن البطالة، والمرض، والفقر لوجود عائل واحد، والفقر في كِبَر السن. وبالتالي، فعلى المستويين الجزئي والكلي، تُعد الإنتاجية محركاً مهماً للنمو وتعزيز الرخاء.
لكن النقاش حول الإنتاجية يركِّز غالباً على منشآت الأعمال الرسمية المُوجَّهة نحو النمو ودورها في خلق الوظائف. ويفوته أن العديد من الناس في اقتصادات الأسواق الصاعدة والغالبية في أقل البلدان نمواً يكسبون أقواتهم من العمل بالقطاع غير الرسمي. وعلى مستوى منشآت الأعمال الصغرى والصغيرة، تعود المكاسب في الغالب إلى الشركات الجديدة الناشئة وليس إلى الشركات المتوسِّعة، ولا يقتصر ذلك على اقتصادات الأسواق الصاعدة. فوفقاً لإدارة الشركات الصغيرة بالولايات المتحدة، فإن قطاع منشآت الأعمال الصغيرة والمتوسطة يستوعب قرابة 50% من الوظائف في البلاد وما يمثل 67% من صافي الوظائف الجديدة، منها 40% ناتجة عن حركة إغلاق الشركات الصغيرة أو تأسيسها. وبالتالي، فإن توسيع نطاق مناقشة المانحين والحكومات حول زيادة الإنتاجية والوظائف ليشمل، بخلاف منشآت الأعمال الصغيرة والمتوسطة، الأفراد والمنشآت الصغرى سيعكس الفرص الحقيقية لخلق الوظائف في اقتصادات الأسواق الصاعدة بصورة أفضل.
كيف ينبغي أن نفكر في الخدمات المالية في ظل هذا التغيُّر العالمي في سبل كسب الرزق؟ دعونا نتناول كل من هذه القطاعات – الزراعة والصناعات التحويلية والخدمات- ونستكشف الطرق المشتركة بينها وبين إقامة قطاع مالي يعتمد على التكنولوجيا الرقمية باطراد.
سبل كسب الرزق الريفية والزراعية
تُعد الزراعة بالغة الأهمية للمناطق الريفية ولرفاهة الفقراء. ففي البلدان منخفضة الدخل، يعيش أكثر من خمسة من بين كل ستة أشخاص في الريف. ويعمل معظمهم في سلاسل القيمة الزراعية، أي في الزراعة أو التجهيز أو التصنيع أو النقل أو التوزيع أو البيع أو الإعداد. ومع أن الزراعة تلعب دوراً قوياً وفعّالاً في المناطق الريفية، فإن الأنشطة غير الزراعية مهمة هي الأخرى.
وبالنسبة للعديد من الأسر المعيشية ذات الحيازات الصغيرة، تتنوَّع باطراد سبل كسب الرزق. فدخلها يكون مزيجاً مما تكسبه من إنتاجها الزراعي وكذلك من العمل في المزارع وخارجها، والتحويلات، والمشروعات الصغرى، وإعانات الحماية الاجتماعية. ولزيادة تنوُّع موارد دخل الأسر المعيشية الريفية ثلاثة آثار مهمة. أولاً، سيقل اعتماد بعض الأسر على إنتاجية مزارعها والدخل المتأتي منها. وثانياً، ستزداد قدرة الأسر على المقارنة بين خيارات الدخل المتاحة لها: كيفية المقارنة بين الدخل من الإنتاج الزراعي والأجر من العمل في مزرعة قريبة أو في المدينة بالمصنع؟ وقد يظل الإنتاج الزراعي مصدراً مهماً للدخل والهوية حتى عند تراجعه ضمن مزيج الدخل العام للأسرة. وثالثاً، قد تضعف حوافز الأسر على مواصلة إنتاجها الزراعي بمرور الوقت. وقد تتقدَّم مصادر أخرى للدخل وتأخذ الأسبقية مع ظهور الفرص ودخول جيل جديد إلى سوق العمل.
هناك عدة عوامل تحدد شكل هذه التغييرات في سبل كسب الرزق الريفية والزراعية، وهي: عولمة سلاسل القيمة، والابتكارات في الأدوات الرقمية والتكنولوجيا، وجيل شاب متعطش إلى فرص العمل الجديدة، ومناخ متغيِّر يُذكِي الصراعات وموجات النزوح.
"توفِّر الخدمات والمنصات التي تستعين بالتكنولوجيا الرقمية فرصاً زراعية جديدة للعديد من صغار المزارعين"
توفِّر الخدمات والمنصات التي تستعين بالتكنولوجيا الرقمية فرصاً زراعية جديدة للعديد من صغار المزارعين. وتتيح للمستخدمين إمكانية الحصول على أصناف عالية الجودة من البذور والأسمدة وخدمات الإرشاد، وتمويل المشتريات وأداء المدفوعات، والعثور على العمالة، والتفاوض مع المشترين، والاحتفاظ بالمدخرات. وتكون هذه الحزمة من الخدمات الجديدة مُكمِّلةً لجمعيات الادخار والإقراض والتعاونيات الأكثر تقليدية في القرى الريفية وليست بديلةً عنها، حيث إنها توفِّر أيضا فرصاً للادخار والاقتراض إلى جانب تقاسم العمالة والخبرة، والشراء المشترك للمستلزمات والماشية، وتجميع الأسواق، وتوفير منشآت تخزين مشتركة.
وتساعد هذه المجموعات من الخدمات المالية وغير المالية الأسر المعيشية الريفية على اغتنام الفرص وبناء القدرة على الصمود بطرق لا يمكن للخدمات المالية تحقيقها بمفردها. ويمكن للنُهُج المُجمَّعة أن تعالج بسهولة مواضع الشكوى التي تعاني منها هذه الأسر باستمرار، ومن بينها تكلفة تخزين المحاصيل وحفظها في الثلاجات ونقلها، بل وحتى تمويل نظام منزلي للطاقة الشمسية ودفع الرسوم المدرسية، وهي أمور ترتبط جميعاً بالخدمات المالية.
تجري رقمنة هذه الخدمات باطراد. وتعمل الشركات والمنصات التي تستعين بالتكنولوجيا الرقمية والتي تقدِّم حزماً من الخدمات المالية وغير المالية، مثل ديجيفارم (DigiFarm) وسيلولانت (Cellulant) وهالو تراكتور (Hello Tractor)، على زيادة الكفاءة وميسورية التكلفة في سلاسل القيمة الزراعية والخدمات المرتبطة بها. ويمثل هذا أُفُقاً جديداً في توفير سبل ريفية وزراعية لكسب الرزق تتسم بالتجدُّد والقدرة على الصمود.
الصناعات التحويلية
بشكل عام، لا يزال دخل العاملين بقطاع الصناعات التحويلية في مختلف البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل يفوق بكثير ما يحصل عليه نظراؤهم من العاملين بقطاع الزراعة. لكن التحوُّل إلى العمل بقطاع الصناعات التحويلية في معظم هذه البلدان، لاسيما منخفضة الدخل، ليس تحوُّلاً من المزارع إلى المصانع. بل على العكس، فمعظم الوظائف بهذا القطاع توفِّرها منشآت الأعمال الصغرى والصغيرة والمتوسطة، أي الورش الصغيرة التي تصنِّع مواد البناء والأدوات والمستلزمات المنزلية للاستخدام المحلي. وبشكل عام، فإن مستويات التوظيف والإنتاجية والدخل بهذا القطاع تصل حالياً إلى ذروتها عند مستويات أقل بكثير في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، مقارنةً بما كان يحدث في البلدان التي سبقت في مجال التصنيع مثل الصين.
تفتقر هذه المنشآت الصغيرة في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل إلى وفورات الحجم لمنافسة الشركات الكبيرة التي استثمرت في التكنولوجيا والنظم المُمَيكنة الموفِّرة للتكلفة والتي تمتلك البنية التحتية لتكون جزءاً من سلاسل التوريد العالمية. وعلى عكس المزارع الصغيرة التي يمكن فعلياً أن تكون أكثر إنتاجية من نظيراتها الأكبر، فمن الصعب للغاية على شركات الصناعات التحويلية الصغيرة منافسة الشركات الكبيرة بسبب ارتفاع تكلفة مستلزمات الإنتاج، ونقص التكنولوجيا، وصعوبة استيفاء متطلبات الربط بسلاسل القيمة الوطنية والعالمية. وربما لم تَعُد الصناعات التحويلية مساراً للنمو موثوقاً به بالنسبة للعديد من اقتصادات الأسواق الصاعدة، لكن المنشآت الصغيرة العاملة بهذا القطاع تَعُد وسيلة لتوفير سبل مستدامة لكسب الرزق. وتواجه هذه المنشآت الأصغر، التي تتركَّز بها الوظائف متدنية الأجر بهذا القطاع، عدداً من المعوِّقات الأخرى على مستوى السوق من بينها تكرار انقطاع إمدادات الكهرباء، وسوء البنية التحتية، وارتفاع تكاليف النقل.
وبالنسبة للمنشآت الصغيرة العاملة بقطاع الصناعات التحويلية، هناك بعض بوادر الأمل التي تتعلق بالابتكارات المالية بدرجة أقل وباستخدام التكنولوجيا في النفاذ إلى الأسواق بدرجة أكبر. وتوصَّل مسح استقصائي عن هذه المنشآت في الهند إلى أن 93% يتعرَّفون على التكنولوجيات الجديدة عبر الإنترنت، مقابل 31% يعتمدون على الجمعيات و34% يعتمدون على الأصدقاء واللذين كانا يمثلان الطريقة الوحيدة للحصول على المعلومات قبل فترة لا تتعدى عشر سنوات. وخلال هذه الجائحة، قامت بعض هذه المنشآت بتنزيل معايير معدات الحماية الشخصية، والوصول إلى الأنماط الخاصة بالأقنعة، وتركيز الإنتاج على تلبية الطلب والحفاظ على العمالة.
"بعض المنصات التي تستخدمها منشآت الصناعات التحويلية الصغيرة في التواصل مع المشترين استفادت من الابتكارات المالية، لاسيما أنظمة الدفع والائتمان الرقمية"
يُظهر بحثنا الخاص حول استخدام الشبكات الاجتماعية في التجارة الإلكترونية بالقطاع غير الرسمي أنها تساعد المنتجين المحليين على تسويق أنفسهم للمستهلكين المحليين، لاسيما النساء. فبعض المنصات التي تستخدمها منشآت الصناعات التحويلية الصغيرة في التواصل مع المشترين استفادت من الابتكارات المالية، لاسيما أنظمة الدفع والائتمان الرقمية. وتساعد منصات التجارة الإلكترونية التي تستخدم أنظمة الدفع الرقمي، مثل إتسي وأمازون هاندميد وفليبكارت سامارث، في ربط الحرفيين بالمشترين لأنواع السلع التي تهيمن على قطاع الصناعات التحويلية في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، ومن بينها المشغولات اليدوية والملابس والحُلي والتحف الفنية والأدوات المنزلية. وباطراد، تقدِّم هذه المنصات أيضا الائتمان للبائعين الثابتين الذين يبيعون عبر مواقعها.
تُدمَج الخدمات المالية باطراد في المنصات التي تتجمَّع بها منشآت الصناعات التحويلية الصغيرة لبيع سلعها ويمكن للمقرضين تقييم المخاطر الائتمانية بناءً على بيانات المبيعات، لكن لا تزال هناك فجوات كبيرة. فهناك حاجة ماسة إلى التمويل خاصةً للصناعات الأكثر كثافة في استخدام رأس المال. ومما يؤسف له، لا توجد شواهد تُذكَر على حل الخدمات المالية لهذه المشكلة. وتحتاج المنشآت الصغيرة في الغالب إلى مجموعة متنوعة من المعدات والمواد المتخصصة، وهو ما يجعل من الصعب إيجاد حلول تمويلية قابلة للتوسُّع أو التكرار.
والجانـب المشـرق فـي كـل هـذا هـو في الابتكارات المالية لمنشآت الصناعات التحويلية كثيفة الاستخدام لرأس المال. ففي أمريكا اللاتينية وأجزاء من آسيا، أدت الفوترة الإلكترونية مع التنظيم الفعّال إلى ظهور التخصيم (شراء الديون التجارية) عبر المنصات الإلكترونية. ويوفِّر هذا التمويل قصير الأجل القائم على الفواتير وأوامر الشراء رأس مال عاملاً أسرع وأرخص وأكثر موثوقية للمنشآت الصغيرة والمتوسطة العاملة بقطاع الصناعات التحويلية لحين تلقي مستحقاتها من الشركات الأكبر والعملاء الحكوميين. وهناك حاجة إلى المزيد من هذه الحلول للتصدي للمعوِّقات الكبيرة التي تواجه المنشآت الصغيرة في تمويل تكاليف المعدات والخامات والكهرباء والنقل.
الخدمات
يتخلَّف قطاع الخدمات عادةً عن قطاع الصناعات التحويلية من حيث مستويات الإنتاجية والدخل، لكنه أصبح البديل الأصلح عن العمل في الزراعة بالعديد من اقتصادات الأسواق الصاعدة. بل وإنه قد يلحق بقطاع الصناعات التحويلية في مستويات الإنتاجية كذلك. وفي آسيا، هناك شواهد من بلدان كبرى مثل ماليزيا والهند على أن التكنولوجيا والابتكار في قطاع الخدمات يؤديان إلى زيادة إنتاجية ودخل العاملين بهذا القطاع عن نظرائهم في قطاع الصناعات التحويلية. وقد توصلت دراسة في أربعة بلدان أفريقية عن العمالة منخفضة الدخل إلى أن العاملين بالقطاع الأول يفوقون بالفعل نظراءهم بالقطاع الثاني من حيث مقدار الأجر لكل ساعة عمل. كما أنهم يعملون بوتيرة أكبر على مدار العام ومتوسط ساعات أكبر أسبوعياً، وهو ما يجعل الوظائف الخدمية أكثر جاذبية من العمل في أي قطاع آخر. ورغم أن الصورة الكاملة للإنتاجية الاقتصادية لم تتضح تماماً بعد، فإن العمل في الخدمات على مستوى الأسر يوفِّر باطراد بديلاً أفضل، بل والوحيد بالنسبة للكثيرين، عن استمرار العمل في الزراعة.
وكما هو الحال مع قطاع الصناعات التحويلية، يتركَّز نمو هذه الوظائف الخدمية بشكل كبير في المنشآت الصغرى والصغيرة بالقطاع غير الرسمي. ويتضح ذلك بإلقاء نظرة على البيانات المتعلقة بمنشآت الأعمال الصغرى والصغيرة والمتوسطة على الصعيد القُطري. وفي المتوسط، يعمل 70% أو أكثر من هذه المنشآت في قطاع الخدمات، وغالبية كبيرة منها تعمل في تجارة التجزئة: 75% في الفلبين، و69% في الهند، و70% في كينيا. وفي هذه البلدان نفسها، تزيد نسبة المنشآت الصغرى التي يعمل بها 10 عمال أو أقل عن 90% ومعظمها تُعتبر "غير رسمية".
"يمكن للنماذج المالية الرقمية الجديدة أن تساعد في سد الفجوة التمويلية التي تواجه منشآت الأعمال الصغرى والصغيرة والمتوسطة، لكنها لم تُثبِت بعد اتساع نطاق تغطيتها وقدرتها على البقاء."
لقد سعى مقدِّمو الخدمات المالية على مدى عقود إلى توفير حلول سوقية شاملة لمنشآت التجزئة الصغرى عبر تقديم منتجات لتسهيل التدفق النقدي، وتمويل بناء المخزون، وتأمين عرض أسعار مثالية فُضلَى من خلال الشراء بالجملة. لكنهم يغطون بالكاد جزءاً ضئيلاً للغاية من الطلب القائم. ورغم نمو نشاط التمويل الأصغر وتحوُّله إلى صناعة عالمية برأسمال قدره 124 مليار دولار، فإن مؤسسة التمويل الدولية تقدِّر الفجوة في تمويل منشآت الأعمال الصغرى والصغيرة والمتوسطة بنحو 5 تريليونات دولار في اقتصادات الأسواق الصاعدة. وقد أثبتت مؤسسات التمويل الأصغر قدرتها على تحمُّل أعبائها المالية، لكن عدداً ضئيلاً منها الذي حقق توسُّعاً كبيراً. ويمكن لنماذج التمويل الرقمية الجديدة أن تساعد في سد الفجوة التمويلية التي تواجه منشآت الأعمال الصغرى والصغيرة والمتوسطة، لكنها لم تُثبِت بعد اتساع نطاق تغطيتها وقدرتها على البقاء. وهناك أشياء كثيرة يجب تعلُّمها للتوفيق بين التمويل الأصغر التقليدي والنماذج الرقمية الجديدة.
ويُعد استمرار التركيز على التمويل بضمان المخزون أمراً منطقياً. وتُظهر الدراسات أن لمنشآت التجزئة الصغرى مواقع ثابتة ومجالاً محدوداً وأنها متلقية للأسعار في الأسواق التنافسية، وهذا كله يجعل تقليل تكلفة المخزون أمراً بالغ الأهمية لزيادة الدخل. وتوصلت دراسة في كينيا إلى أن ما يتراوح من 40 إلى 60% من تكاليف المنشآت الصغرى ترجع إلى حيازة المخزون.
لكن التمويل يمكن أن يكون أكثر فعالية لو اقترن بخدمات وتكنولوجيات أخرى تساعد منشآت الأعمال الصغرى والصغيرة والمتوسطة على إدارة مورِّديها ومخزونها ومجال تجارة التجزئة المتاح لها وعملائها، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة الإنتاجية. وهناك بعض المؤشرات الواعدة على قدرة التكنولوجيا والخدمات المالية معاً على التصدي لهذه التحديات بصورة شاملة. وتربط خدمات كثيرة استبدال المخزون والتمويل ببيانات المبيعات. وأحد الأمثلة على ذلك أوان توناي الذي يساعد المتاجر في إندونيسيا على تسجيل مخزونها ورصد المعاملات، ثم استخدام هذه البيانات في ربط المتاجر بالمورِّدين والتمويل من البنوك. ويوفِّر مقدِّمو خدمات التحصيل، مثل كوبو-كوبو في كينيا ويوكو في جنوب أفريقيا، نماذج ائتمانية للشراء بالاقتراض من التجار الذين يقبلون المدفوعات الرقمية. وتقدِّم منصات التجارة الإلكترونية الكبيرة المزيد من خدمات إدارة العملاء التي تجمع بين التسويق وخدمات إصدار طلبات الشراء والدفع والخدمات اللوجستية لمساعدة صغار تجار التجزئة على التوسُّع في السوق الرقمية وبناء الولاء لدى العملاء.
أجندة سيجاب الجديدة بشأن سبل كسب الرزق
قامت سيجاب بتمحيص عقود من النتائج المتعلقة ببرامج تعزيز سبل كسب الرزق، ورأت أنها بحاجة إلى تعريف واضح لما تعنيه سبل الكسب في السياق المعاصر. وقد اخترنا تعريفها بأنها "دخل الفرد أو الأسرة المعيشية الذي يتم الحصول عليه مقابل العمل و/أو الاستثمارات و/أو الخدمات، أو نتيجةً للإعانات الاجتماعية و/أو العائلية". ويراعي هذا التعريف مدى تعقيد كسب الدخل في القطاع غير الرسمي في عالم سريع التغيُّر والتحول إلى الرقمنة. كما أنه سيساعدنا في دراسة التفاعل المعقَّد بين كسب الدخل والقدرة على الصمود على مستوى الأسرة المعيشية.
وقد قادنا بحثنا التقييمي الأولي إلى تركيز عملنا بشأن سبل كسب الرزق في ثلاثة مجالات رئيسية:
- سبل كسب الرزق الريفية والزراعية. لأن معظم الفقراء يعيشون في المناطق الريفية و40% من سكان العالم ترتبط موارد أرزاقهم بالأنشطة الزراعية صغيرة النطاق، فإن سبل كسب العيش الريفية والزراعية ستظل محورية في تحقيق الشمول الاقتصادي والمالي وكذلك في عمل سيجاب. وفي ظل هذه التشابكات الكبيرة بين الأنظمة الغذائية والمالية، تركِّز سيجاب على النساء اللائي يعانين عادةً وبدرجة أكبر من التهميش والفقر والحرمان من الخدمات الرقمية. ويؤكد عملنا على الدور الذي يمكن أن تلعبه الخدمات المالية في مساعدة النساء على زيادة عوائدهن من العمل ويشمل ذلك العمالة التي يوظفنها، والادخار من خلال النظم المُمَيكنة، وتوفير العمل بأجر وبدونه. ويؤكد أيضا على مدى قدرة الخدمات المالية على تحسين إمكانية نفاذ النساء إلى الأسواق محلياً وكذلك عبر المنصات الرقمية. وكما ذكرتنا هذه الجائحة العالمية وانتشار أسراب الجراد في عام 2020، فإن بناء القدرة على الصمود لا يقل أهمية عن اغتنام الفرص. ويمكن لمجموعة من أدوات إدارة المخاطر وشبكات الأمان أن تمكِّن الأسر المعيشية الريفية من الاستثمار في أنشطة أكثر إنتاجية وحماية مكاسبها التي تحققت بشق الأنفس. وسيلزم أن تعالج الحلول ذات الصلة الأعراف الاجتماعية السائدة، وتقدِّم حزماً من الخدمات لتلبية مجموعة أوسع من احتياجات العملاء بتكلفة أقل، وتستفيد من الأدوات والبيانات الرقمية بطرق أكثر شمولاً.
- منشآت الأعمال الصغرى والصغيرة. تخلق هذه المنشآت معظم الوظائف المتاحة لذوي الدخل المنخفض في مختلف أنحاء العالم. ونقوم باستكشاف الفرص لتحسين تقديم الخدمات المالية لهذه المنشآت بطرق تعزِّز سبل كسب الرزق لمالكيها وللعاملين بها. وبالاشتراك مع الأطراف الحالية في القطاع المالي مثل مؤسسات التمويل الأصغر، نلقي نظرة جديدة على المسارات الناجحة للرقمنة. كما نستقصي كيف يمكن لشركات التكنولوجيا المالية إحداث تغيير في طريقة حصول هذه المنشآت على الخدمات المالية. والأساس في هذا كله هو سعينا للتوصُّل إلى فهم أفضل لماهية هذه المنشآت، واحتياجاتها وأهدافها الأساسية، وكذلك كيف يمكن للخدمات المالية أن تساعد في تلبية تلك الاحتياجات وتحقيق تلك الأهداف.
- المنصات الإلكترونية. ليس هناك أفضل من عالم العمل عبر المنصات الإلكترونية، الصغير لكنه سريع النمو، لإيضاح هذا التغيُّر الديناميكي في طريقة عمل الفقراء. ولأن المنصات تستضيف الأسواق حيث تتيح لمن لديهم أشياء (مثل السلع المادية، المحاصيل، الخدمات) التواصل مع مَن يريدونها، فقد استفاد الملايين من العمال عبر المنصات في الوصول إلى العملاء وتلقي المدفوعات مقابل السلع المباعة والخدمات المُقدَّمة. ورغم أن العمل عبر المنصات يتيح نماذج جديدة لكسب الدخل في جميع القطاعات الثلاثة، فإن الغالبية العظمى تقوم إما ببيع سلع مادية أو تقديم خدمات مثل الخدمات اللوجستية أو خدمات النقل أو الخدمات المنزلية والشخصية. ومع ذلك، فقد أبرزت أزمة جائحة كورونا المخاطر المتزايدة التي يتعرَّض لها معظم العاملين عبر المنصات. وهناك دعوات متصاعدة لأن توفِّر المنصات أعمالاً لائقة ويشمل ذلك تقديم دخل عادل ومزايا أساسية. وستستقصي سيجاب السبل التي يمكن من خلالها أن تساعد الخدمات المالية هؤلاء العمال على اغتنام الفرص والحد من بعض المخاطر. كما يمكن للمزايا القابلة للنقل عبر المنصات أن تساعدهم على تحقيق الاستقرار وتكوين شبكة أمان لهم.
وفي الختام، إننا ندرك أن سبل كسب الرزق لا تتعلق فقط بأن تكون مزارعاً أو عاملاً أو رائد أعمال مُنتِجاً، بل أيضا بعيش حياة مُنتِجة. كما يتعلق تحسين هذه السبل بإتاحة الاختيار من بين مسارات كسب الرزق. ويتطلب اغتنام الفرص وبناء القدرة على الصمود تقديم خدمات مالية لا ترتبط فقط بنوع معيَّن من سبل العيش، بل يمكن توظيفها أيضا لمساعدة الناس على اكتساب المهارات التي يحتاجون إليها للترقي والتكيُّف، وكذلك بناء الأصول اللازمة لإدارة التحوُّلات والصمود في مواجهة الانتكاسات. ويعيدنا ذلك إلى أهمية خيارات التمويل الشخصي المرنة وميسورة التكلفة والمتنقلة وضرورة فهم كيفية توظيف الخدمات المالية في جعل هذه التحوُّلات الحياتية والعملية ممكنة. ونظراً لتعدُّد المرات التي قد يُقدِم فيها الأشخاص على تغيير ما يفعلونه ومكان ذلك، فإننا نحتاج إلى مواصلة ترويج خدمات التجزئة المالية للأفراد التي تسير معهم طوال مراحل رحلتهم.
ونظراً لأن سيجاب تبحث بتعمُّق أكبر في طرق تقاطع الخدمات المالية المبتكرة مع الطبيعة المتغيِّرة لسبل كسب الرزق، فإنه سيكون لديها الكثير لتدلي به عن الفرص التي يوفِّرها هذا النموذج الجديد وكذلك بعض المخاطر، لاسيما في إدماج التمويل في الخدمات الأخرى. وبدلاً من العودة إلى تسعينيات القرن الماضي، فإننا متحمِّسون للإمكانيات التي يوفِّرها الاقتصاد والتمويل الرقميان لتعزيز الفرص المدرِّة للدخل للأسر المعيشية الفقيرة في القرن الحادي والعشرين.
غريتا بول هي المديرة التنفيذية لسيجاب. وتيل برويت هو رئيس قطاع الممارسات العالمية للخدمات المالية والاستثمار في مؤسسة دي إيه آي. وقد قام هو وفريقه بإعداد ورقة توصيف المشهد التي ساعدت في تشكيل رؤية سيجاب بشأن سبل كسب الرزق وتمت الاستعانة بها في كتابة المسودات الأولية لهذا المقال.