المنتجات الخضراء والشروط البيئية في مشاريع التمويل الأصغر: نعمة أم نقمة في مكافحة الإقصاء المالي ؟
د. رباب يسري، مديرة أولى في القطاع المركزي للتمويل المتناهي الصغر بجهاز تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، برنامج يهدف لمحاربة البطالة وتحسين المستويات المعيشية وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية. لديها أكثر من ١٥ عامًا خبرة في التدريب والتمويل متناهي الصغر وريادة الأعمال والنوع الاجتماعي.
تم استضافتها كمتحدثة في مؤتمرات محلية ودولية وظهرت في لقاءات تلفزيونية، وقدمت دورات تدريبية في ريادة الأعمال ومهارات العمل. خبرتها تتركز على متابعة أداء مشاريع التمويل متناهي الصغر ودراسة وضع شركات المدفوعات الإلكترونية للتعاون معها. الدكتورة رباب حاصلة أيضاً على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة في مجال المشاريع.
يشهد العالم منذ أعوام تزايد وتسارع الأطر والاتفاقات والأنظمة الدولية المعنية بتغيّر المناخ والكوارث البيئية كذلك الإجراءات المناسبة لتخفيض الانبعاثات الدفيئة، ويشكل هذا الاهتمام المتنامي انعكاساً لأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، وخاصة هدف التنمية السابع الخاص بـ "التأكد من الاستدامة البيئية". لذا تتضافر كافة الجهود لتحقيق ذلك الهدف ومحاولة مواجهة المخاطر المناخية المتزايدة عالمياً.
وقد بدا واضحاً ضرورة دمج مشاريع التمويل الأصغر في خطط الوقاية من تغير المناخ، وتعزيز القدرة على التكيف البيئي، وجهود الاستدامة. وقد بات ضرورياً إدماج عملاء التمويل الأصغر، وكذلك المؤسسات نفسها، في خطط التحول إلى ممارسات أكثر استدامة. فالعديد من الممارسات الحالية، التي غالبًا ما يتم تنفيذها بسبب نقص الوعي، يمكن أن تؤثر سلبًا على البيئة. أي أن مقدمي التمويل الأصغر اليوم يلعبون دوراً مهماً عبر التأكد من أن تمويلهم يدعم المشاريع المستدامة، مما يمكن عملاءهم من الاستفادة من الابتكارات المتعلقة بالمناخ وتعزيز قدرتهم على التكيف. يتضمن ذلك الترويج لممارسات أكثر قدرة على الصمود أمام الصدمات المناخية ودعم قطاعات مثل الزراعة المستدامة.
ضمن هذا الإطار، شهدت مصر العديد من المبادرات نحو تحقيق التنمية المستدامة ودعم التمويل الأخضر عبر العديد من الهيئات ولا سيما الهيئات الممولة للتمويل متناهي الصغر. يستعرض هذا المقال مقارنة بين تمويلين تم منحهمها إلى أحد مؤسسات التمويل متناهي الصغر بمصر، أحدهما تمويل أخضر، بناءً على مقابلة مسؤولي الإقراض وتحليل بعض المعطيات التي تم معرفتها من خلالهم والبيانات المالية الخاصة بالمؤسسة.
دراسة حالة تمويلين متناهي الصغر أحدهما أخضر
في مصر، بلغ حجم التمويل متناهي الصغر حتى مايو 2024 حوالي 56 مليار جم وتم تقديمه لحوالي 4 مليون مقترض متناهي الصغر، وقد شهد نموا بمقدار 34.6 % عن العام السابق وذلك طبقا لتقارير هيئة الرقابة المالية بمصر، كما ارتفعت نسبة المواطنين المشمولين ماليا (16 سنة فأكثر) إلى %70.7 في نهاية 2023 مقارنة بـ %64.8 في نهاية 2022 وبمعدل نمو بلغ %174 خلال الفترة من 2016 إلى 2023، وذلك فقاً لمؤشرات قاعدة بيانات الشمول المالي بالبنك المركزي المصري.
تلقت أحد مؤسسات التمويل متناهي الصغر نهاية عام 2022 تمويلين من نفس الجهة بنفس قيمة القرض، أحدهما قرض متناهي الصغر "تقليدي" موجه لتمويل المرأة يهدف لتمويل كافة القطاعات ويشمل ذلك القطاع الزراعي والتجاري والخدمي والصناعي والآخر هو قرض يهدف لتمويل المشروعات المتناهية الصغر الخضراء لتمويل القطاع الزراعي فقط ويستهدف تحديداً تمويل ألواح الطاقة الشمسية لدعم المشروعات الزراعية للاعتماد على الطاقة الشمسية لتشغيل مضخات ري المياه للأراضي الزراعية بدلاً من الاعتماد على الكهرباء وذلك للمشاركة في دعم البيئة وتقليل الانبعاثات الضارة وخفض تكاليف المشروع.
خلال العام الأول من التعاقد قامت المؤسسة بمنح قروض لمستفيدي التمويل متناهي الصغر بكامل قيمة التمويل التقليدي، إلا أنه بالنسبة للقرض الممنوح للمشروعات الخضراء فقد تمكنت الجمعية من صرف 50% فقط من المبلغ خلال نفس الفترة واعتذرت عن توجيه بقية التمويل للقروض الخضراء وأقبل على القروض الخضراء مقترضين ذكور فقط على الرغم من أن القرض الأخضر تم منحه بشروط ميسرة ومزايا أفضل مقارنة بالقرض التقليدي.
وعلى الرغم من أن هذه المؤسسة لديها خبرة في مجال التمويل متناهي الصغر تفوق الخمسة وعشرون عاماً، وذات هيكل إداري قوي وموظفي قروض بمهارات إدارية ومالية عالية، مما يجعلها مرشحاً ممتازاً لإدارة منتج تمويلي جديد مثل منتج التمويل الأخضر، إلى أنها لم تتمكن من إدارته بفعالية.
معوقات تحقيق الشمول المالي عبر التمويل الأخضر
بعد لقاء مسؤولي الإقراض وتحليل البيانات والمعلومات تبين عدد من التحديات الداخلية والخارجية التي واجهتها المؤسسة.
أول هذه التحديات ارتفاع سعر الخدمة، فعلى الرغم من أنه من المتعارف عليه عالمياً أن استخدام الطرق صديقة البيئة كالطاقة الشمسية هي أحد الطرق الكفء والفعالة لتوليد الكهرباء إلا أن تلك المؤسسة قد أوضحت أن أحد التحديات التي تم قد واجهها المقترضون والتي أدت إلى عدم اقبالهم على الخدمة هو ارتفاع سعر الخدمة المقدمة من قبل المورد لألواح الطاقة الشمسية. قد يرجع ذلك الى ارتفاع سعر العملة مما أدى في النهاية الى ارتفاع سعر ألواح الطاقة الشمسية حيث أنه يتم استيرادها من الخارج وقد يسترعي هذا الانتباه بأنه نظراً لحداثة تقديم الخدمة وعدم توافر العديد من الموردين وارتفاع سعر ألواح الطاقة الشمسية فقد يواجه استخدام تلك الخدمة تحدياً مالياً، حيث أنه رغم من ان استخدام تلك الخدمة قد تؤتي ثمارها لاحقاً وقد تؤدي الى انخفاض تكلفة الطاقة لاحقاً مقارنة بأسعار الكهرباء المرتفعة حالياً إلا ان السعر المروج في الوقت الحالي ما زال مرتفعاً.
ثاني أبرز التحديات هو غياب المقترضات النساء، لاحظت المؤسسة نقصًا في عدد النساء المتقدمات للحصول على القرض الأخضر، على الرغم من أن النساء يمثلن نسبة كبيرة تبلغ حوالي 40٪ من القروض متناهية الصغر التقليدية. يمكن أن يُعزى هذا النقص، بناءً على عدة مقابلات ميدانية وتحليلات، إلى قلة وعي النساء بالقروض الخضراء – على الرغم من أن القرض قد تم تسويقه لكل من الرجال والنساء – أو الرؤية العامة التي تعتبر أن المشاريع المتعلقة بالطاقة هي مجال للرجال. ومع ذلك، من المهم ملاحظة أنه سواء بالنسبة للقروض الخضراء أو القروض التقليدية، خاصة في المناطق الريفية المصرية، حتى لو كان المقترضون رجالاً، فإن نسبة كبيرة من منفذي المشاريع هن نساء، حيث تميل المشاريع إلى أن تكون قائمة على الأسرة.
نتيجة لذلك يبرز التحدي الثالث وهو ضعف الطلب لا يقبل العدد من مقترضي التمويل متناهي الصغر على القروض الخضراء وذلك لعدة أسباب منها ارتفاع التكلفة حيث أنه نظرا لحداثة ذلك النوع من القروض واستيراد الألواح الشمسية من الخارج مما يؤدي ذلك الى ارتفاع تكلفة القرض على المدى القصير مع عدم التأكد من العائد ، ومنها أيضا هم قله المعرفة والوعي بالقضايا البيئية وأهميتها مما يسهم في احساسهم بتعقيد العملية وعدم جدواها.
ما هي إذاً بعض الاعتبارات التي يجب التنبه لها عند تقديم منتجات تمويلية متناهية الصغر خضراء ؟
يجب أن تقوم مؤسسات التمويل متناهي الصغر بتصميم وتنفيذ استراتيجية للاقتصاد الأخضر يكون قوامها الأول رفع الوعي وإتاحة المعرفة لكل من مسؤلي القروض ولعملاء التمويل متناهي الصغر على حد سواء بالتحديات البيئية الحقيقية عالمياً ومحلياً وبدورهم المساهم في الوقاية من والإستجابة للمخاطر البيئية وزيادة إلمامهم بمصادر الطاقة النظيفة والمتجددة التي من الممكن الاستعانة بها حتى في سلوكياتهم اليومية كأفراد.
كما يجب أن تتضمن هذه الاستراتيجية الخضراء توفير منتجات تخدم البيئة أو تعديل المنتجات المتوفرة حالياً مع وضع حوافز للمقترضين مثل تقديم سعر فائدة مميز أو عمل برامج تأمينيه مصاحبة لمنتج التمويل الأخضر لخلق ثقافة داعمة لخدمة البيئة ، أحد الأمثلة الواعدة في المنطقة العربية هو بنك الأمل باليمن وهو أول بنك للتمويل الأصغر في اليمن ومنطقة الشرق اللأوسط وتم تأسيسه عام 2002 وبدأ رسميا في نياير 2009
وقد قام البنك في السنوات الأخيرة بعقد شراكات مع منظمات دولية لتنفيذ مشاريع التمكين الاقتصادي الموجه لقطاع الطاقة المتجددة وتوسيع الشراكة المحلية مع شبكة تجار وموردين من أجل تقديم منتجات تمويلية لعملاء التمويل متناهي الصغر بجودة وسعر أفضل وقام بتطوير منتج زراعي يستهدف دعم صغار المزارعين بشقيهم الزراعي والحيواني لتوفير المستلزمات والأدوات الزراعية المتمثلة بمضخات الري العاملة بالطاقة الشمسية وكذلك تمويل الري بالتنقيط وذلك بالشراكة مع موردين متخصصين تم التعاقد معهم من قبل البنك بأسعار متميزة لتخفيف تكاليف تمويل تلك المنتجات وتقديم تمويلات بصيغ اسلامية مختلفة مثل القرض الحسن وتمويلات المرابحة بنسبة مرابحة هي الأقل من بين خدمات البنك.
وبالنسبة للعمليات الداخلية قام البنك بتطوير استراتيحية الصيرفة الخضراء وتطبيق ممارسات إدارة وتشغيلية ولوجيستية تسهم في الحد من اهدار الماء وتخقيف استهلاك الكهرباء.
عند تقديم منتجات التمويل الأصغر الأخضر، من المهم مراعاة أن المستفيدين أو المقترضين أو العملاء قد لا يعطون الأولوية للمخاطر البيئية في عملية اتخاذ القرارات. بل يركزون غالبًا على الربح، حتى عندما تكون تكاليف القروض مرتفعة نسبيًا. وهذا يعني أن تصميم منتجات التمويل الأصغر الأخضر يجب أن يبرز ليس فقط الفوائد البيئية، بل أيضًا القيمة الاقتصادية والربحية، ويجب تضمين الحوافز المالية وغير المالية (مثل الإعفاءات الضريبية أو التخفيضات).
من المرجح أن يكون العملاء أكثر تحفيزًا عند إدراكهم كيف يمكن أن تؤدي الممارسات أو التقنيات الصديقة للبيئة – مثل الطاقة المتجددة أو الزراعة المستدامة أو نماذج الأعمال ذات الكفاءة البيئية – إلى زيادة دخلهم أو تقليل تكاليفهم أو تحسين قدرتهم على التكيف مع الصدمات الاقتصادية. لذلك، يجب على مؤسسات التمويل الأصغر ضمان تأطير هذه المنتجات حول مزاياها الاقتصادية، مثل التوفير على المدى الطويل من كفاءة الطاقة أو تعزيز الإنتاجية الزراعية. من خلال إظهار أن الممارسات المستدامة بيئيًا يمكن أن تؤدي إلى نتائج مالية أقوى، يصبح العملاء أكثر ميلاً إلى تبني المبادرات الخضراء، حتى لو كانت مبالغ القروض المبدئية مرتفعة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب دمج برامج التثقيف والتوعية لمساعدة العملاء على فهم الفوائد المالية والبيئية على المدى الطويل، وتشجيعهم على اعتبار الاستدامة استثمارًا مربحًا بدلاً من التزام مكلف. يمكن أن تساعد برامج التثقيف المالي والإرشاد حول كيفية إدارة التكاليف الأولية مقابل العوائد على المدى الطويل العملاء في اتخاذ قرارات مستنيرة، مما يضمن نجاح وانتشار منتجات التمويل الأصغر الأخضر.
تلعب الحكومة دوراً مهماً أيضاً إذ من دورها أن تضع إطاراً تشريعياً للمشروعات الخضراء المتناهية الصغر وإضافة مزايا وحوافز لمنفذي المشروعات الخضراء. وإضافة تعديل خاص بذلك الى قانون 152 لعام 2020 الخاص بالمشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر.
وحتى الآن قد قامت الحكومة المصرية بالعديد من الجهود لدعم التنمية المستدامة وإدماج العمل البيئي في صنع السياسات، كما ركزت رؤية 2030 على تحقيق مبادي وأهداف التنمية المستدامة في كل المجالات وتعكس الأبعاد الثلاثة البيئي والاجتماعي والاقتصادي، وكذلك الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ لعام 2050، كما أطلقت وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية بالتعاون مع وزارة البيئة "دليل معايير الاستدامة البيئية: الإطار الاستراتيجي للتعافي الأخضر"، بالتعاون مع وزارة البيئة وبالتنسيق مع الجهات الحكومية ذات الصلة، وهو الدليل الأول من نوعه الذي يهدف إلى التوعية بالقطاعات والتدخلات ذات التأثير الإيجابي المباشر على البيئة وذلك طبقا لما ورد بتقرير تحليل البيئة القطري المصدر من البنك الدولي المصدر في يونيو 2024 إبداء إهتمام خاص بتفصيل برامج معبرفية للنساء بغية تمكينهن بيئياً وزيادة وعيهن بالقضايا البيئية وبالمنتجات التمويلية الخضراء مع تصميم منتج يتوافق مع أسلوب حياتهن ومع تفضيلاتهن.
أخيراً وليس اخراً يجب تقييم المؤسسات التمويلية من قبل الجهات المانحة ليس فقط بناءاً على مؤشراتها المالية وقدرتها المؤسسية بل أيضاً على مراعاتها للبعد البيئي.
في النهاية فإنه على الرغم من تلك التحديات التي تواجهها المؤسسات المالية فإن دعم القضايا البيئية وتوفير منتجات تمويلية خضراء لعملاء التمويل متناهي الصغر وتحقيق الإدماج البيئي للمرأة أصبح أمراً ضرورياً في ظل التغيرات المناخية وما تقاسيه البيئة من معاناة وذلك تجنباً للحد من الكوارث البيئية ومواجهة التحديات البيئية اللذي يواجهها العالم ويعاني منها الفقراء بصورة أكبر لذا يجب أن تتضافر الجهود لاقتراح المزيد من الخدمات التي قد تسهم في تحسين جودة الحياة لعملاء التمويل متناهي الصغر.