المحافظة على عقود من التنمية: نداء من أجل لبنان
عندما أفكر في عام 2020، بالكاد أستطيع أن أصدق ما حدث في بلدي لبنان. فعلى الرغم من المعاناة بسبب تدهور الوضع الاقتصادي، وتفشي جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19)، والانفجار المأساوي في مرفأ بيروت، لم أُصدم إلا عندما رأيت أرقاماً عن الخسائر التي تلحقها هذه الأزمات بمقترضي التمويل الأصغر؛ فها هي عقود من التنمية التي تحققت بشق الأنفس تتعرض يوماً بعد يوم لانتكاسة، وإن كانت بطيئة ولكنها مطردة. وإذا كانت النتائج التي خلصت إليها هذه الدراسة الجديدة التي أجرتها المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء (سيجاب)، وجمعية مؤسسات التمويل الأصغر في لبنان تخبرنا بشيء، فهو أن هناك حاجة إلى التحرك الفوري للحفاظ على أحد أكبر الأصول لدى لبنان، ألا وهو رأس المال البشري الذي يتمتع بالموهبة والقدرة على ريادة الأعمال.
تنظم "فريال" - إحدى المقترضين الذين شاركوا في هذه الدراسة - متجرها للملابس المستعملة في سهل البقاع. حصلت "فريال" على قرض للتمويل الأصغر لتوسيع متجرها، الذي نما بشكل مطرد إلى أن جعل تخفيض قيمة الليرة اللبنانية من المستحيل شراء بضائع جديدة من دون زيادة كبيرة في الأسعار. ومع تضاؤل دخلها، وانخفاض درجات الحرارة في الشتاء في سهل البقاع إلى قرب درجة التجمد، لم تعد "فريال" قادرة على تحمل تكاليف تدفئة منزلها. وقد اضطرت للاقتراض من جارتها لسداد قرض التمويل الأصغر بالكامل، وتقول إنها ستحصل على قرض جديد من قروض التمويل الأصغر إذا تمكنت مرة أخرى من تحقيق أرباح من عملها. صورة: نادين شحادة
بسبب الضغوط التي نتجت عن العجز الكبير في المالية العامة والميزان التجاري، بالإضافة إلى تراجع تدفقات رأس المال دخل الاقتصاد اللبناني حالة ركود في عام 2019. ونتيجة لتعرض القطاع المالي لمخاطر سيادية كبيرة، أدى تخلف الحكومة عن سداد السندات الدولية في مارس/آذار 2020 إلى تفاقم أزمة مصرفية كانت آخذة في التكشف منذ شهور. بالإضافة إلى ذلك، أدت القيود المفروضة على عمليات تحويل الأموال إلى الخارج والسحب النقدي في اقتصاد مربوط بالدولار إلى استمرار تآكل الثقة في النظام المالي برمته. وأحدث استنفاد احتياطيات العملات الأجنبية توترات بشأن نظام ربط الليرة بالدولار الذي تم في عام 1997، وأدى إلى انتشار أسعار صرف متعددة لليرة اللبنانية. بالإضافة إلى ذلك، أدى انخفاض قيمة العملة اللبنانية مقابل الدولار إلى ارتفاع هائل في معدل التضخم، إذ بلغ 137 بالمئة على أساس سنوي في أكتوبر/تشرين الأول 2020.
وبعد أن كان الاقتصاد اللبناني قد تمكن ذات يوم من تحقيق ثاني أعلى معدل لملكية الحسابات المصرفية بين البلدان النامية في العالم العربي، أصبح قائماً على المدفوعات النقدية، وأصبحت طرق الدفع الرقمي أقل قبولاً لدى المواطنين. وقد انكمش أيضاً قطاع التمويل الأصغر. وفي ذروة عمل جمعية مؤسسات التمويل الأصغر في لبنان، كان لدى أعضائها محفظة استثمارات مجمعة تربو على 220 مليون دولار، وقدمت خدماتها لأكثر من 150 ألف زبون - أي أكثر من 10% من الأسر في لبنان. وعلى مدار عام 2020، مع تراجع إجمالي الناتج المحلي للبنان بنسبة 25 بالمئة وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، تقلص أيضاً قطاع التمويل الأصغر. علاوة على ذلك، زادت نسبة القروض المتعثرة؛ إذ كان المقترضون يكافحون من أجل سدادها.
وفي هذا السياق، أجرت المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء، وجمعية مؤسسات التمويل الأصغر في لبنان مسحاً شمل نحو ألف مقترض للتمويل الأصغر على مدار عام 2020. ويُظهر هذا المسح أن قطاع التمويل الأصغر يتقلص بصفة أساسية بسبب ما تعرض له الوضع الاقتصادي للمقترضين من تدهور حاد بين صيفي 2019 و2020. في تلك الفترة، توقف 50 بالمئة من المقترضين عن العمل، أو كان دخلهم أقل ثباتاً. وشهد رواد الأعمال، الذين يشكلون الغالبية العظمى من مقترضي التمويل الأصغر، انخفاضاً في مبيعاتهم بنسبة بلغت 94 بالمئة، وواجهوا تحديات تتعلق بتقلبات أسعار الصرف، وفقدان الزبائن، والقدرة على سداد الديون. وقد تعرض نصف الموظفين، الذين يشكلون نسبة صغيرة من المقترضين، لخفض رواتبهم، في حين فقد 20 بالمئة آخرون وظائفهم. أما من يتمكنون من الصمود على نحو أفضل، ولا يزالون قادرين على سداد قروضهم في الوقت المحدد فهم المقترضون الذين لديهم إما مصدر دخل ثانوي أو فرد آخر من أفراد الأسرة لديه عمل، مما يشير إلى تأثير واسع النطاق في مختلف قطاعات الأنشطة.
وتُعد النساء - اللاتي يشكلن أكثر من نصف المقترضين ويعملن لحسابهن الخاص بصفة عامة، أكثر تضرراً بسبب هذه الأوضاع. وذكر عدد من النساء، بلغ ثلاثة أضعاف عدد الرجال، أنهن توقفن عن العمل، وقال معظمهن إنهن يتحملن مسؤولية رعاية الأسرة بمفردهن في أثناء جائحة كورونا.
في ظل هذا الانخفاض في القيمة الحقيقية للدخل والإنفاق، يشهد لبنان فقراً في المواد الغذائية للمرة الأولى منذ مجاعة عام 1915.
ويُظهر هذا المسح أيضاً أن مقترضي التمويل الأصغر شهدوا انخفاضاً كبيراً في قوتهم الشرائية - شأنهم في ذلك شأن كل شخص تقريباً في لبنان - تزامناً مع تدهور سعر صرف الليرة وارتفاع معدل التضخم. وفي صيف عام 2019، كانت الأسرة العادية التي تحصل على قرض تنفق أكثر من ألف دولار شهرياً. وكان متوسط عدد أفراد مثل هذه الأسر 4.5 أفراد، مما يعني أن إنفاق الفرد الواحد كان 7.90 دولارات يومياً. ومنذ ذلك الحين، انخفض الدخل الفردي الاسمي، وبينما زاد الإنفاق الاسمي للأسر بالليرة على نحو طفيف، انخفض الإنفاق المعدل حسب التضخم بأكثر من النصف إلى 3.40 دولارات.
في ظل هذا الانخفاض في القيمة الحقيقية للدخل والإنفاق، يشهد لبنان فقراً في المواد الغذائية للمرة الأولى منذ مجاعة عام 1915. وأوضح نحو 40 بالمئة من زبائن التمويل الأصغر الذين شملهم المسح أنهم أصبحوا غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية، وقد خفض 60 بالمئة منهم استهلاكهم، بما في ذلك المواد الغذائية مرتفعة الثمن مثل اللحوم أو الفواكه. وبينما لا يزال لدى ثلثي هذه الأسر منازل تؤويهم، فإن الضائقة المالية التي تواجهها واضطرارها إلى خفض مستويات معيشتها بشكل كبير في أقل من عام أدت إلى لجوء 50 بالمئة منها إلى الإنفاق من مدخراتها، في حين اضطر 43 بالمئة منها إلى بيع أصولهم المنقولة، ومنها الذهب بصفة أساسية.
ومع استمرار هذا الوضع، واستنفاد المدخرات، ثمة خطر حقيقي يتمثل في حدوث خسائر طويلة الأجل في رأس المال البشري، إذ تتراجع أولوية الإنفاق على تعليم الأطفال وصحتهم. بالإضافة إلى ذلك، فإن لدى نصف المقترضين الذين شملتهم الدراسة أطفالاً في مدارس خاصة لم يعودوا قادرين على تحمل مصروفاتها، وقد عبروا عن قلقهم بشأن نفقات الرعاية الصحية. ومن المفهوم أن المقترضين أعربوا أيضاً عن شعورهم بالقلق بشأن مستويات ديونهم الإجمالية، التي أصبحت اليوم أعلى بخمس مرات من متوسط قروض التمويل الأصغر التي تم منحها. بالإضافة إلى ذلك، شهد الاقتراض من أفراد العائلة والأصدقاء والمتاجر ارتفاعاً حاداً، غير أنه حتى هذا الأمر لا يكفي لتغطية النفقات الشهرية في كثير من الحالات. وفي دلالة على تلك المصاعب، أخبرنا 26 بالمئة من المقترضين أنهم يفكرون في الحصول على قروض من أجل سداد ديونهم الحالية.
على الرغم من كل هذا، فإن هناك جانباً مشرقاً وهو أن 93 بالمئة من المقترضين يشعرون بالرضاء عن مقدمي التمويل الأصغر. وأوضحوا أنهم سوف يقترضون مرة أخرى بمجرد أن تسمح الظروف الاقتصادية بذلك.
يتعين على المانحين والمستثمرين الذين لهم مصالح في لبنان الوقوف إلى جانب قطاع التمويل الأصغر والمقترضين في هذه الظروف العصيبة التي يواجهونها.
ويُعد هذا الأمر حقا أمراً استثنائيُاً في خضم انهيار القطاع المالي في البلاد. وهو يعكس تفاني موظفي قطاع التمويل الأصغر الذين يعملون بجد على مدار سنوات، وقاموا بتوسيع شبكات عملهم وإعداد محافظهم الاستثمارية. ولعل هذا التميز هو بالتحديد ما يجب، بل ويستحق الحفاظ عليه في الأشهر المقبلة.
يتعين على المانحين والمستثمرين الذين لهم مصالح في لبنان الوقوف إلى جانب قطاع التمويل الأصغر والمقترضين في هذه الظروف العصيبة التي يواجهونها. ويتمثل أحد الخيارات للقيام بذلك في الاستفادة من التسهيل التمويلي للبنان، وهو آلية تمويل مجمعة في إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار (3RF) الذي أعلنه الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، ومجموعة البنك الدولي لمواجهة تداعيات انفجار مرفأ بيروت. وسيكون هذا الأمر مفيداً لأنه، على المدى القصير، يمكن للتمويل الأصغر أن يضع أساساً قوياً لمواجهة تزايد معدلات البطالة والفقر على نطاق واسع. وعلى المدى الأطول، يمكن أن يسهم في تحقيق انتعاش أسرع بمجرد استقرار الوضع الاقتصادي.
وربما الأهم من ذلك أنه من خلال العلاقات الوثيقة والداعمة التي أقامتها مؤسسات التمويل الأصغر مع آلاف الأسر، يمكن للتمويل الأصغر أن يعطي هؤلاء الناس الأمل في غد أفضل. وهذا أمر يحتاجه كل شخص في لبنان تقريباً اليوم أكثر من أي وقت مضى.