هل من الممكن أن تقوم التكنولوجيا المالية بتمهيد الطريق لنظام مالي أكثر شمولا في مصر؟
بالرغم من أن مصر كانت على وشك تحقيق انجاز في إمكانية الحصول على الخدمات المالية لعدة عقود، إلا أن نموها فيما يتعلق بالشمول المالي قد تأخر بشكل مستمر عن اقتصاديات مشابهة لها. فقد كانت هناك مبادرات عديدة تتمثل في توجيهات من الحكومة بإقراض المشروعات متناهية الصغر و الصغيرة و المتوسطة، و خطوط ائتمان من المؤسسات المالية الدولية، ومئات الملايين من الدولارات من أموال الجهات المانحة تأتي للمؤسسات المكلفة بدعم التمويل الأصغر، وتمويل البنوك للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، ومؤخرا ؛ المساعدة الفنية والتمويل لدعم الخدمات المالية الرقمية.
وما هي نتيجة كل ذلك؟ زيادة في عدد البالغين الذين لديهم حسابات من 14% إلى 32.8% منذ عام 2014 حتى 2017، وذلك طبقا لأحدث تقرير لقاعدة بيانات المؤشر العالمي للشمول المالي " 2017 Global Findex" ؛ وهو تقرير يصدره البنك الدولي كل ثلاث سنوات عن إمكانية الحصول على الخدمات المالية حول العالم.
أن العائد على الاستثمار حتى الآن جيد ولكنه أقل مما يجب، وبشكل خاص عندما يتعلق الأمر بتحوّل الحياة المعيشية للأشخاص ذوي الدخل المنخفض. وعلى الرغم من ذلك، توجد العديد من الأسباب للتفاؤل. فمصر لديها جميع السمات المميزة لسوق مهيأة لتحقيق طفرة؛ مثل: عدد سكان يزيد عن 93 مليون نسمة منهم 21.7 مليون تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما، وعدد اشتراكات للهواتف المحمولة يزيد عن عدد السكان (110 مليون اشتراك)، واستخدام كبير لوسائل التواصل الاجتماعي (يوجد لدى "فيسبوك" بمفرده ما يزيد عن 37 مليون مستخدم كل شهر).
وقد يكون أكثر التطورات المبشرة بالخير في مصر هو ظهور مقدمي خدمات مالية جدد. فقد تم إطلاق خدمة "فوري" في عام 2008 وهي عبارة عن نظام مجمّع للدفع الإلكتروني يضم حاليا 20 مليون مصري ويقوم بإجراء 1.6 مليون معاملة كل يوم، ويوجد لديه 75,000 نقطة خدمة. و يتيح نظام "فوري" بإجراء المدفوعات عبر الإنترنت و يستخدم أجهزة الصراف الآلي من خلال محافظ الهواتف المحمولة أو لدى الوكلاء. ولقد أعلنت شركة فوري مؤخرا عن سعيها لتقديم خدمات التمويل متناهي الصغر من خلال تدشين 100 فرع جديد بالعلامة التجارية "فوري بلس". كما تم إطلاق شركة "مصاري" في عام 2009 لتقديم وتجميع خدمات الدفع و لديها 45,000 نقطة خدمة وما يزيد عن 500,000 مشترك.
أما شركة "باي موب PayMob" فقد تم إطلاقها بواسطة خريجون جدد من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وتقوم بقبول مدفوعات المشروعات عبر الإنترنت ومن خلال محافظ الهواتف المحمولة و في المتاجر. وهي تقوم بربط التجار بحلول الدفع الحديثة حتى يتمكنوا من تحسين كفاءة المؤسسة بأكملها والتوسع في التجارة الإلكترونية مما قد يؤدي إلى زيادة السوق الخاص بهم بشكل كبير.
كما يوجد وافد جديد "ماني فيللوز MoneyFellows" وهي عبارة عن منصة رقمية تحاكي مجموعات الإدخار والائتمان بالتناوب (ROSCA). إن استخدام الوسائل الرقمية من أجل الإدخار والائتمان بالتناوب يعتبر نمطا سلوكيا مستنير من أجل توجيه انتباه الأشخاص الذين يعتمدون على الخدمات المالية غير الرسمية نحو خدمات مالية أكثر رسمية وعادة ما يتواجد في البلاد التي تعتبر فيها نوادي الادخار أو "الجمعية" من الممارسات المعتادة، وكذلك وجود شريحة كبيرة نشطة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وتقوم "ماني فيللوز" بإتاحة الفرصة للعملاء لتشكيل رابطة باستخدام دائرة معارفهم الخاصة من الأصدقاء، تماما كما يحدث على أرض الواقع ؛ أو أن يقوموا بالانضمام إلى دائرة عامة. ويبدأ العملاء الذين ليس لديهم سجلا للتتبع، بدوائر ذات مبالغ قليلة إلا أن الأمر قد ينتهي بهم إلى دوائر أكبر بكثير. وتعتزم "ماني فيللوز" استخدام بيانات المساهمات الشهرية لأعضاء الدائرة من أجل إعداد منتجات ائتمان رقمية لكل شخص.
ويضاف إلى جميع هذه الوسائل الجديدة للتكنولوجيا المالية في مصر؛ العديد من خدمات المحافظ الإلكترونية التي تم إطلاقها أيضا والتي تتضمن "فون كاش" ("فوري" مع "البنك الأهلي المصري) ، و"أورانج موني" (بالتعاون مع بنك الإمارات دبي الوطني)، و "فودافون كاش" (بالتعاون مع بنك التعمير و الإسكان) ، و "اتصالات كاش" (اتصالات مع البنك الأهلي المصري). كما أن شركة "باي فورت PayFort" المملوكة لمجموعة أمازون تعمل منذ عام 2014 على دعم قبول التجار للدفع الإلكتروني من أجل تحسين التجارة الإلكترونية في جميع أنحاء مصر، وقامت بشراكات مع فوري والبريد المصري و جميع البنوك الرئيسية في مصر من أجل تسهيل جمع المدفوعات لدى أي من وكلاء وفروع هؤلاء الشركاء.
إن سرعة ونطاق الابتكار في مجال المدفوعات أمر مثير للاهتمام. والسؤال الذي يفرض نفسه هو ما إذا كانت هذه الحلول سوف تعمل على زيادة إمكانية الحصول على الخدمات للقطاعات التي كانت محرومة في السابق؛ أو ما إذا كانت هذه الحلول سوف تقوم بتحسين مدى قبول سوق تمت خدمته بالفعل. و يوجد حاليا حوالي 6 ملايين حساب لتحويل الأموال عبر الهاتف بمصر، إلا أن العديد منها لا يتم تفعيله. ولذلك لا يزال هناك مجال كبير للنمو حتى ضمن الشريحة التي تضم 22 مليون من الشباب النشطين رقميا والذين تتراوح أعمارهم من 18 إلى 27 عاما. إن القضية الأهم هي: كيف يتم تجاوز عملية المدفوعات للوصول إلى شمول مالي حقيقي – أي الوصول إلى نهج شامل يتضمن ائتمان بتكلفة معقولة وفرص للإدخار وأدوات لعمل موازنة تقديرية ؟
نعتقد أن الحل يجب أن يستوفي أربعة معايير على الأقل من أجل الوصول إلى الأشخاص من ذوي الدخل المنخفض وهي :
- القيمة المقدمة للعميل: على الرغم من أن العديد من حلول الدفع بالسوق تقوم بزيادة مستمرة لعروضها، إلا أنه من غير الواضح حتى الآن إذا كانت هذه العروض تلبي احتياجات الأشخاص من ذوي الدخل المنخفض. ويجب أولا أن يكون لدى مقدمي الخدمات المالية فهم عميق لاحتياجات هذه الفئة ثم يقومون بعد ذلك بتقديم الحلول التي تلبي هذه الاحتياجات بشكل مباشر. ويبدو إن العديد من الحلول الموجودة تكون موجهة لدعم التجارة الإلكترونية أو خدمات "مشروع إلى مشروع B2B". و لكن ماذا يحتاج العملاء من ذوي الدخل المنخفض أو ما الذي يرغبون في استخدامه ؟ و هل تقوم الحلول بتمكين المشروعات غير الرسمية أو غير المسجلة من المشاركة في الاقتصاد الرقمي، و بناء عليه يتم تقديم مسار لهؤلاء العملاء بحيث يكون خارج إطار الاقتصاد الذي يعتمد فقط على النقد؟ أو هل تتطلب هذه الحلول المزيد من أوراق العمل والقيود الإضافية التي يجب تجاوزها، مما يمنع من هم في القطاع غير الرسمي ؟ وهل يحتاج المستخدمون أن يكون لديهم حساب بنكي أو بطاقة ائتمان لكي يكونوا قادرين على استخدام هذه الحلول ؟ فإذا كان الأمر كذلك ، فسوف يتم استبعاد معظم المصريين من ذوي الدخل المنخفض. إن حلول الدفع تقوم أيضا بإغراء مقدمي الخدمات المالية وأصحاب المصلحة المعنيين الآخرين أن "يسمحوا للشيء الجيد أن يكون عدوا للشيء الممتاز". ويعني ذلك توفير طرق سهلة نسبيا لتحقيق خطوة في خطة الشمول المالي دون التقدم لإعداد فرص مالية حيوية أخرى مثل إدارة التدفق المالي وفرص الإدخار والتأمين.
- سهولة الوصول إلى الخدمات و القدرة على تحمل التكاليف: إن نقاط الخدمة تزداد بسرعة في مصر، ويعمل العديد منها بشكل جيد خارج القاهرة. وسهولة الوصول إلى الخدمات لذوي الدخل المنخفض تعني أيضا وجود تكاليف منخفضة وقابلية للاستخدام بدون دراية بالتكنولوجيا المتطورة. إلا أن تواجد نقاط تحويل الأموال عبر الهواتف المحمولة في كل مكان بأسواق أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى مثلما هو الحال في كينيا، لا يوجد مثله في مصر حتى الآن على الرغم من نمو السوق الذي يقدر بتواجد بحوالي 100,000 وكيل.
- سهولة التسجيل: على الرغم من الحاجة إلى العديد من الأدوات التنظيمية التمكينية من أجل تقدم الخدمات المالية الرقمية، إلا أن القواعد التي تحكم توثيق فتح حساب أولي لتحويل الأموال عبر الهاتف يجب أن تعكس ما يمكن لذوي الدخل المنخفض القيام به دون تحمل أعباء غير ضرورية. إن مقدمي خدمات تحويل الأموال عبر الهاتف في مصر يتطلبون من العملاء أن يكون لديهم بطاقة رقم قومي أو جواز سفر لكي يقوموا بفتح حساب، مما يحدّ من إمكانية الحصول على الخدمة و بشكل خاص للنساء.
- إدراك الاحتياجات الفريدة للعملاء من النساء: إن المرأة المصرية غالبا ما يكون لديها هواتف منخفضة القيمة ولا تحصل بسهولة على مستندات تحقيق الشخصية ولديها مستويات أقل في معرفة القراءة والكتابة. وعلاوة على ذلك، فالمرأة المصرية قد تكون غير راغبة في المشاركة بمعلوماتها أو غير راغبة في طلب المساعدة من الوكلاء الرجال فيما يتعلق بالمعاملات المالية. إن مقدمي الخدمات الذين يهتمون بزيادة إمكانية الوصول إلى ذوي الدخل المنخفض ويسعون لعدم تفاقم الفجوة بين الجنسين، يجب عليهم التفكير في التسويق المناسب للبيئة وأن يكون لديهم مزيد من الوكلاء النساء، و سياسات أخرى لتشجيع وتمكين النساء على استخدام الحسابات بسهولة.
إن الأمور الأربعة المذكورة أعلاه هي أمور هامة، ولا يوجد منها ما هو مستحيل تنفيذه، كما أثبتت التجارب في البلدان الأخرى حول العالم. إننا نعتقد أن مصر مهيأة لأن تحدث "طفرة كبيرة" فيما يتعلق بالخدمات المالية الرقمية. لقد حان الوقت، وتوجد وفرة في الإبداع والابتكار والفرص في عدد كبير من المشروعات الناشئة.